حرائق ساخنة
على مسافة موت أحمر يقف ( كَرده مند)* شامخاً مدجّجاً بمذاق الغضب، تنحني الريح له بعدما تواطأ الموت معه، يحدّق من أعلى قمته بعينين لايخونهما المدى صوب (جومان)**المدينة الغارقة بالخراب والصمت، المعانقة لأطياف قمم أسكرها الثلج، أسئلة مصلوبة على دكّة النسيان، أشلاء القتلى ما زالت تحكي موتها، مدينة تتثاءب وجعاً، قيد الهذيان والخذلان يلهو بمعصمها، تتعكّز على حشمتها وبقايا وطن لعلّها تتحرر من أسرها. الجندي اللائذ بظلّ حشد من الجثث بينه وبينها غابة من عويل، ومعارج من جراح يحملها الأنين. يتسلّل بلا وعي إلى منعطفات نهر يتلوّى من الألم، يتنهد بصمت أشجار البلوط الدامعة، أشجار تحمل ظلّ الموتى وأغصان ذاوية افترستها شظايا الموت، يبحث عن مأوى يلوذ به، آثار طريق تنجيه من محرقة أضناها العطش، لم يعد يبصر أيّ شيء، أعمدة الدخان تملأ المكان، والظلام ينتشر في أرض ميتة، لاشيء سوى أصوات القذائف وأزيز الرصاص، الرعب يغزو المكان، ثمة صراخ عند ضفتي النهر، لم يعد للحياة تفاصيل، كان على مشارف قيامته، الجندي المتسلّل إلى منعطف النهر يستوي على أنقاض أساه وأحلامه المكفّنه بالسراب، كان يتساءل باستغراب،
" هل سيغتالني المكان بلا وداع ؟ وأمضي بلا وهج؟ "
لم يعد قادراً على التنفس، كان الموت يخطف كلّ شيء، حتى الحجر غادر مكانه، مرتدياً أجساد القتلى، مضى يمشي بوجل على أطراف منعطفات المجهول، يرتحل من موت إلى آخرعبر حرائق ساخرة، تتستّر بصلعة الجحيم. الظلام الدامس، الغبار المتصاعد من جسد الأرض، براكين من الأوهام، الطرق الوعرة تطلق رصاصات طائشة تقتفي أثره، يتعثّر بأجساد مشوّهة، وأشلاء تنطلق منها رائحة الأنين، تنبجس من عمق عينيه دموع ترتدي ظلّاً حارقاً، الطريق محض افتراء، كلّ شيء يتلصّص عليه حتى الحصى يطلق أصواتاً تحت قدميه، يجفل القلب منها، أنفاسه اللاهثه تشخب بالحيرة، حيرة غارقة في موج من التأملات والأماني، خطواته تتقاطع عند منعطف الأمل واليأس، منعطف الموت والحياة، وحين أدرك أنّه لايملك غير جسده وأنّه وحيد في ألمه، أستظلّ بحفيف أحلام تنطق بأزمنة اغتالتها ماكنة الحرب ورغبات متوهجة بالجنون، يخيّل إليه أنّ مدينته الواقعة غرب الخوف على مرمى أحلامه، كطيف متّشحبالهروب، تّلوح له بكلتا يديها، تفتح له باب التباريح، سقط من تحت عزلته ورهبة المكان، متماهياً مع مطر القيامة، يمسّ شغاف قلبه سكينة أعوام انصرمت، يتسلّق ضجيج المقاهي ببطء، ينحني فوق أرصفة الطرق برفق، يمسك ضوءاً تشتاق إليه الذاكرة، ضوءاً ينسلّ من وهج امرأة، غزت منابر الروح بجدائلها المنسدلة على كتف الصباح، لها تخيلات الورد وطلعة الشمس، كلّ شيء جميل في مدينته، الليل والنهار، سقف البيت المتوّج بغزل المحبة، النوافذ التي تحلم بنسيم المساء وضوء المصابيح، شفاه الأرصفة التي تغزل القبلات لخطواته العالقة بايقاع الصبر والرفض لحصون العتمة، كان ينتمي إلى أصقاع عالم آخر في حضرة ذاكرة متوهجة برائحة الأهل والمآذن والطيبة، متوهجة بعبق الجدران وضفاف الأنهار الغافية على لحن من شجن، عيون الأطفال المترقرقة بالانتظار، أزقّة تسطع بما يشبه الضوء، كانت جميعها تحدّق به، مدينة كانت تجفّف آلامه وتغتال أحزانه بلذّة خاطفة، اختلط الماضي الجميل برائحة المنايا، تنفجر به رغبة للعصيان دون أن يعرف أن كلّ الطرق تحمل ملامح الموت، وأنّ خطاه تتعثر بقبور تترصد أحلامه. كان المكان قيداً من رعب، يحمل شارة الحداد والعزاء، تقتتل أفواج من الذباب وأفواج من الثيران على أعتابه، تتهاوى حصون الذاكرة وخنادق الحاضر بعدما اختلطت رائحة الدم والدخان برائحة الشواء، الأشلاء المتناثرة على ضفتي النهر تحمل نفس الملامح، بينما المكان يرتدي حلّة الرحيل، الغياب، يغفو الجندي على ضفة رغبة على غير عادته، تاركاً موته عند ظلال أشجار البلوط الدامعة وعشب الأرض المحترق بنيران القذائف، حينها تسقط المدينة فوق خرائط القتل لتعلن هزيمة الذاكرة.
-----------------------------------------------------------------------------
*( كَرده مند) جبل يقع في الشمال الشرقي للعراق
** ( جومان ) مدينة في شمال العراق