عندما يتكلم الصمت!
بهجت الرشيد
في مقتبلِ العمرِ، وقد بدتْ عليها ملامحُ الصمت، في هذا الموقف الذي أَلِفْنا فيه الإنسان غاضبًا مستاءً!
تلك العينان السوداوان لم تكونا غاضبتَيْنِ أبدًا، وهذا الوجه قد رسمَ الهدوء عليها رضًا وسكينةً، يجعل المرء يقفُ حائرًا مندهشًا أمام هذا النموذج الذي يَفتقِرُ إليه عصرنا، عصرُ الصَّخبِ والثرثرة والضجيج!
كنتُ غارقًا في أسئلتي عنها، فإذا هي تتلاشى أمامي كشبحٍ لاحَ فجأةً واختفى!
سألت نفسي: هل تحملُ هذه الفتاة حقًّا تجربة يمكنُ للإنسان المعاصر أن يستفيد منها؟ أم أن كلَّ ما حصل قبل قليل ليس فيه ما يؤكِّد ذلك؟
مضتْ سحابةُ ذلك اليوم، وأشرقتْ شمسُ يوم ثانٍ، وأدلى ليلُ يومٍ آخَرَ سدولَه، أيامٌ وإذا بي ألمحُ هذه الغريبة جالسةً في المكتبة تقرأ، فخطر لي أن أقتل الشكَّ باليقين! ترددتُ لحظة، ثم حسمتُ أمري، فتقدمتُ وسألتُ: إنني حقًّا أريد أن أسمع قصةَ صمتك هذه؛ فإني أراها جديرةً بالتأمُّلِ والتعلمِ.
قالت وهي تتحسَّسُ بعينيها وجهَ هذا الغريب المقتحم هدوءها: لا تحسبَنَّ يا أخي (الإنسان) أني صامتةٌ هادئةٌ؛ لأني لا أعرف نسجَ العباراتِ، وتدبيجَ الكلامِ، وحبْكَ الجمل؛ بل لأني موقنةٌ بأن الكلامَ وعاء المعاني التي نُضمرها في نفوسنا، وترجمةُ أحاسيسنا وما يجيشُ في صدورنا وعقولنا من مشاعر وأفكار؛ لذا فأنا لا أحبُّ أبدًا أن أكونَ مثل الكثير من هؤلاء البشر الذين لا يتكلَّمون عن قناعةٍ ولا اجتهاد رأي، وإنما يردِّدون كلَّ شيءٍ مثل الببغاء، ويتلوَّنون بكل لونٍ مثل الحرباء، إن ثقافة ﴿ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا ﴾ [الأعراف: 28] لتتَّسعُ اليوم وتتنوَّع.
ألسنا مخدوعين بالإعلام وأضوائه البرَّاقة؟! بالاستهلاك والتسوُّق وتكديس الأشياء، ما نحتاجها وما لا نحتاجها؟! واللهاث وراء التخفيضات الموسميَّة؟! ألسنا نرى السعادة بيتًا وسيارة وزوجة تُشبِهُ فتيات الإعلانات؟!
يا أخي (الإنسان) إننا نعيش في عالم مليء بالصخب وعدم المبالاة وهجرانِ الهدوء والسكينة، الكلُّ يصيح، يَصرُخ، يركض كالوحوشِ، يَلْهَثُ كالذي يتخبَّطُه الشيطان من المسِّ!
عالمٌ ملوَّثٌ بركام المادية، مستعبدٌ ولكن بطريقة مختلفة، أكثر حداثية، لم يَعُدْ هناك صنمٌ ووثنٌ حجريٌّ أو خشبيٌّ، وإنما صنمٌ من أشياء أخرى أكثر قدرة على المراوغة والخداع والتلاعب!
أصنامٌ لا نشعر بها وهي تَتغلْغَلُ في أعماقنا، تُشكِّل قِيمَنا وأخلاقنا وتصوراتِنا، وتُوجِّه سلوكنا!
تساءلتُ وقد هَاشتْ أفكاري واضطربت: لماذا؟
رمتْ ببصرها عبر النافذة، تلألأ في عينيها انعكاس أشجارٍ تقفُ شامخةً في حديقة المكتبة، ثمَّ همستْ بأسًى: لقد شالَ الميزان واضطرب، وأسرَ الإنسان نفسَه في سجنٍ ماديٍّ اختاره لنفسه، هَجرَ الفطرةَ والجمال والروح، صارَ العالمُ في نظره أرقامًا وحساباتٍ مصرفيةً، والإنسانُ ليس هو الذي كرَّمه الله تعالى وسخَّر له ما في السموات والأرض، بل مستهلكٌ جديدٌ لبضاعته وإنتاجه!
ألا يضحِّي الإنسان بأخيه الإنسان من أجلِ صفرٍ يضعُه أمام رقم حسابي؛ ليزيد رصيده في البنوك؟
من أجل أن يبقى على عرشه الزائل يومًا آخر؟
ألمْ يتحوَّل الإنسان إلى آلةٍ وماكينةٍ خرساءَ ليس له في هذا الوجود سوى إنتاج ما تنتجُه الآلة في المصنع أو المعمل؟
إن نظرةً دقيقةً في خارطة العالم ترينا كيف أن حيِّز الإنسان يتقلَّص؛ ليتَّسع حيِّزُ المصانع والمعامل، وحيِّز الإنسان الآلة!
قلتُ: هذا صحيح، ولكن ألا تَرَيْن أن هذه نظرةٌ أحاديةٌ إلى العالم والإنسان، تصويرٌ من زاوية واحدة فقط؟
قالت: بلى، فنحن البشرُ كالقمر لنا جانبان، وقد أخبرتُكِ بالمظلم؛ لأنك سألتني عن سبب صمتي، وأترك الزاوية الأخرى لفِطْنتكَ ورأيكَ.
حركتُ رأسي موافقًا على ما نطقَتْ بها قريحتها المتوهِّجة، وانطلق لساني كما لو أنها ألقتْ عليَّ من سحرها:
أما الجانب الآخرُ للقمرِ فمضيءٌ، يسكنه النُّور ويرسلُ النُّورَ، ذلك مثلُ الإنسان السَّويِّ الذي يعي مقاصدَ خلْقِه وغايةَ وجوده، يتجاوزُ القشرَ إلى اللبِّ، ويعلمُ كيف يجمعُ الروح والمادة، وكيف يربط الأرض بالسماء؛ ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77].
وهو مع كلِّ ذلك ليس ملاكٌ لا يعتريه الخطأ والزَّلَلُ، يستجيب لنداءِ التربةِ التي خُلقَ منها، نعم ولكنَّ عينه أبدًا إلى السماء؛ رهبةً ورغبةً!
وبهذا الفهم والتطبيق يحقِّقُ خلافتَه في الأرض، ويحوزُ ما أفنى العقلاء والفلاسفة والمفكرون، والتائهون أيضًا، بل الناس جميعًا حياتَهم وفكرهم وجهدهم فيها، السعادة، وأيُّ سعادةٍ: الدنيا والآخرة!
إنها إذًا مقارنةٌ بين حياتين؟
قالت: نعم إنها مقارنة، ومقارنة صعبة، ليس بين حياتين، بل بين حياةٍ وموتٍ، وللإنسان في آخر الأمر أن يختارَ!
ورَأَيْتُني أتكلَّم كالفلاسفة، وسرى في جسدي تيارٌ من الشجاعة، فقلت: ولكن أنواجِهُ هذا الحياة بالصمتِ، أم بالكلامِ المباح؟ ولا أقصِدُ بالكلام الألفاظ والعبارات فقط، بل كلام العمل والإنجاز أيضًا؟ ألا تَرَيْنِ معي أنَّ كأسَ الحياة فارغة، فإما ملأناها عسلًا وإما مُلِئت صابًا وعلقمًا؟
أَنَيْئس من الواقع ومجابهته بالصمت، ونتلمَّسُ لصمتنا زاوية مظلمة؟
أفلا ندخلُ في صميم الواقع لتغييرهِ، ونستغلُّ ما وَهَبه الله لنا لمصلحة الإنسان، فإنِّي أرى أن الأخيار تركوا هذه الهبةَ ولبسوا لبوسَ المتصوِّفة، وداروا في حلقات مفرَغة؛ فصحَّ فينا قولُ القائلِ: يَداكَ أَوْكَتا وفُوكَ نَفخ!
هل سنترك المجانينَ يحكمون في هذا العالم العميانَ، كما يقول شكسبير؟
خَاوصتْ النظر إليَّ في ابتسامةٍ هادئةٍ: وشكسبيرُ أيضًا؟!
ـ وكما قال سيدنا المسيح: عميانٌ يقودون عميانًا!
أغلقتْ كتابَها، همَستْ: حقًّا لم يعد الصمت ممكنًا!
.............
نشر لي هذه النص مشكوراً موقع الألوكة