ماذا أقول في مزهرية جميلة زجّ بها في كوم فخار مكسور؟ - بات كل من يمرّ يلعنها وينعتها بأشنع الصفات...
مرّت بها نحلة ذكية، رقصت حولها رقصة التحية ثم بادرتها بسؤال:- ما الذي رمى بك في حطام الحزن ياذات الحسن؟ أين زهور الفلّ والياسمين اللائي غنين لحن العشق زمنا على شفتيك، زمن حاك خيوط أيامه من ألوان اللفظ البليغ ونسج لياليه من بوح الشموع الباكية من شجن الحنين والذكرى؟
تنهدت المزهرية قبل أن ينساب بوحها في أصداء تلحسها النسمات الذائعة، تمزجها برضاب العبير المتحدّي أطلال الفخار المتناثر فالمكان ؛ حيث تزفر الريح في باقي الدهور زمهريرا لافحا.
قالت : ليت لي بطاقة كالتي نسيها الشاعر في غيهب معطفه منذ تفوّه بأول بيت بثه كل معاني الصبابة، إذن لقالوا عني ما يقال في المغتصبات من بنات حواء في وطن فقد أهله الحس بالنقاء وألفت آذانهم لغط الموت الخانق في سوق الدعارة!
يـاه! مأشدّ ألم الاغتراب في الذات، وما أقسى ضربات سوط الظن إذ يمضي يجلد خد الكرامة، ويجني ثمر الآثام ليعرضها مصبوغة في طبق الشباب الجائع لمعاني المبادئ والقيم، بعد أن يرش عليها وهم الحرية والتحضّر! بالأمس كنت في بيت شاعر فقير اشتد به العوز فباعني بثمن قلم وورقة بيضاء لرجل أنهك جهده الورع فانحط قدره بين الناس، فاستخفوا به لما يطبع سيرته من قناعة ورضا. طردوه من مملكة المجون لعفّته ؛ كان يعيش وحيداً إلا من زوجه الصابرة وطفليه المستغربين حال أبيهما في دنيا الجشع والكذب والنفاق... كبُرت ابنته واستوت كغصن البان، وازدانت بالحياء ، وكللها الجمال بسحر البيان وبهاء الطلعة. لم يخطبها أحد، لأن أحدا لم ير مفاتنها ولم تبد للعيون الجائعة بسفور يُرْخص غالي طهرها. وإن ظهرت بحجابها الخلاب، تسير قاصدة في مشيها صوب الأيكة المسحورة أو جدول الرؤى السابح في دنا الآمال الحسان... كانت تنتقي لي زهورا تتيه على الندى وهي في أكمامها لم تزل، تهدهدها بسمات شمس الضحى قليلا فتبثها أسرار العشق العارم، فينبعث فيها عبير النقاء، ويفيض على شفاهها بوحٌ أعذب وأرقّ من هديل الحمائم الزاجلة... أحببتها تلك الصبية وأحبتني، وساقتنا سبل الحياة لدرب الأحزان ! ... وغداة حزن، حكموا على أبيها بمغادرة الحي الثمل، وحجزوني فيما حجزوا من أثاث، ثم باعوني لماجن لايكاد يصحو من سكرة إلا ليغرق في أدهى من سابقتها. حولني إلى جرة لخمرته، فما كادت تستقر في جوفي حتى تمايلتُ وانكفأتُ على بساط حجرته... ثارت ثائرته فرمى بي حيث أنا...