تضرب الأمواج الصّخور , تعجّ البلدة الصّغيرة بالحركة , تنام في آخر اللّيل على أصوات السّكارى , وتصحو على جلبة صناديق الأسماك وصخب الصّيّادين , وقد نست كل شيء , وتضرب الأمواج الصّخور من جديد , كم هي صغيرة هذه البلدة السّاحليّة , ونسّاية . في أطرافها , على آخر رصيف في الشّاطيء تلمح بيت عمّي موح بائع السّجائر , وقد صنعه من الخشب وجعل صفائح الحديد سقفا له .
شيخ بروح الشّباب , يرتدي زي البحر المألوف , السروال الأزرق الخفيف , القميص المخطّط بالأزرق الدّاكن والأبيض , وقبّعة قبطان السّفينة , ويعيش بمفرده مع كلبته – لايكا - . يقصده العابرون منذ سنين طويلة لشراء السّجائر , وألفه الشباب اليافع خاصة , حيث يهربون اليه من يوميّات حياتهم , والتزاماتهم , ليكتشفوا معه الدنيا . يُجالسهم ويُسامرهم , ويعطيهم من خبراته , وينصحهم . أحيانا كثيرة يتدخّل , يُصلح ويحل الكثير من المشاكل , لكنّ البلدة جاحدة .
أرجع مرة عروسا هربت ليلة زفافها مع الشاب عشيقها , مغني الراب المعروف . اقتلعها من أحضانه وأعادها الى حفلة العرس , ليلا من الميناء وقد كانا متّجهين الى اسبانيا , ستر البنت وجنّب العائلتين الفضيحة . اكتشف الجميع حقيقة هذا الشاب المغني حين تمّ القبض عليه بصفته رئيس عصابة بيع وترويج المخدّرات وتزوير العملة . يرى الفتاة الآن وقد صارت سيّدة بيت وأمّا , وترقبه بنظرات المودّة والامتنان , من زجاج نافذة السيّارة , كلما توقّف زوجها ليتشتري بعض السّجائر .
يأتيه الشباب ولا يبع لهم شيئا , يمنعهم من التّدخين , ويحثّهم على الدّراسة . وكان يأتيه أحد الشباب ليلا بوجبة عشاء ساخن , ووجبة خاصة بالكلبة – لايكا - , ويبقى معه يتسامران على أصوات موج البحر , وكأس الشاي . يحكي له كثيرا من قصصه الواقعيّة المؤثّرة , ويريه صورا ورسائل قديمة , وبعض المقتنيات , من حياته الّتي كانت زاخرة ومليئة بالمغامرة والمتعة . لكن بدأ النّاس يتكلّمون عنه سلبا , ومع ظهور التيّارات الدّينيّة المتطرّفة , تحوّل عمي موح في نظر النّاس الى مركز شر , وبيته ومحلّه صار بؤرة فساد .
خصّص امام مسجد البلدة خطبة الجمعة كاملة لموضوع عمي موح , وبنبرة حادة جهورية يصل صداها الى كل أطراف البلدة , ويسمعها عمي موح , تكلّم الامام عن خطر السّجائر وأنّها حرام شرعا , ثم انتقل الى المخدّرات والآفات الاجتماعية , وانحراف الشباب , وفي صدر الخطبة أشار صريحا وبعبارات واضحة الى عمي موح . قال : هذا الشيطان الّذي يسكن في أطراف بلدتنا هو مركز كل شر ومنبع كل مصائبنا , تأفف الجميع وقالوا : لا حول ولا قوة الا بالله . وكأنّ السّماء سقفا اسمنتيّا وقد سقط على رأسه , وكأنّ الأرض قد انشقّت وابتلعته , من حينها لم يعد أحدا يزوره . عمي موح , لم يعد يكلّم أحدا .
مضت الأيّام والليالي الطّوال ولم يدخل فمه حلوا ولا مرّا , ولا باردا ولا ساخنا . لم يتحرّك من فراشه وقد أجهد جسمه النّحيل المرض والجوع , ولا يوجد في البيت أي شيء للأكل . تمنّى أن يكون في مقدوره أن يصرخ فقط , لعلّه يمرّ أحدهم قرب هذا البيت النائي ويسمعه . وفي تلك اللّيلة جاء الشاب الّذي كان يتردّد عليه سابقا , وقد حمل اليه بعض الأكل خلسة من بيته . طرق الباب الخشبي بقوة وطويلا , ولم يستطع أن يجبه , كانت قواه قد خارت تماما وشارف على الموت .
سمع طرقات الباب وعرفه , وبدأ يجيبه بالأنين الخافت فقط , وكلبته – لايكا – تئن معه , وقد داومت على حراسته منذ أيام , يئس الفتى وهمّ بالانصراف , أسرعت اليه – لايكا – رآها ففرح , وضع يده مربّتا على شعر رأسها الكثيف , ولم يفهم شيئا من نباحها المتواصل , قالت له : انّ صاحبك جائع ومريض وقد أوشك على الموت , وأنا مثله جائعة , لكنّ معجزة فهمها كانت لسيدنا سليمان عليه وعلى نبيّنا السّلام .
ذهب الشاب , وباتت – لايكا – تلثمه وتلحس وجهه وجسمه بلسانها , كما كانت تفعل مع صغارها , ولم يعرف ان كان لعابها أو دموعها هذا الّذي بلّل لحيته , ربّما تبكي الكلاب . وقبيل أولى خيوط الفجر انصرفت – لايكا – لحال سبيلها , يجب أن تأكل وتعيش . ومع الفجر صعدت روحه الى السّماء .
لم تتوقّف السّماء عن البكاء يومها , وبكت أيضا تلك السّيدة الّتي فرّت ليلة زفافها , وبعض الشّباب الّذين أنقذهم من الإنحراف وصاروا أساتذة وآباءا , وذلك الشاب الّذي أحسّ بالنّدم لأنّه انصرف ولم يفهم ما قالته له – لايكا –
تضرب الأمواج الصّخور , تعجّ البلدة الصّغيرة بالحركة , تنام في آخر اللّيل على أصوات السّكارى , وتصحو على جلبة صناديق الأسماك وصخب الصّيّادين , وقد نست كل شيء , وتضرب الأمواج الصّخور من جديد .