حمامة بيضاء تتنقل من غصن إلى أخر، تعزف أحلى الألحان وأشجاها، ترقص أجمل الرقصات وأروعها، ترسم لوحات الحب على إيقاعات نسمات الرياح الهادئة، تسبح في الفضاء بدون هموم تثقلها...
توقف عن الكتابة فجأةً وأخد يعبث بقلمه، تارة يمرره من يد إلى أخرى بخفة ويدحرجه على الطاولة تارة أخرى، ثم تأمل أخر ما كتب: بدون هموم تثقلها.
رفع رأسه وتتبع حركاتها حتى سكنت واستقرت على جدار يقابل غرفته، استمع من جديد إلى هديلها كأنه يسمعه أول مرة، تصورها تعزف سمفونية الحب لحبيبها حينا وتشتكي حزنها ورتابتها أحيانا، ربما تفكر في الغد المجهول أو في الماضي القريب...
حيره أمر الحمامة وهرب بجسده إلى الجهة المقابلة حيث الشارع العام، تفحص الوجوه بلهفة لعله يكشف سرها المضمر خلف تلك الملامح البادية. ذلك الرجل ذو السحنات القاسية، لا بد أن يكون شريرًا، ربما لا.. قد تدل على حزنه أو ثقته المسلوبة. وتلك المرأة في ملابسها الأنيقة وخطواتها المتناسقة، لا بد أن تكون سيدة مجتمع سعيدة.. ماذا لو كانت تخفي تعاستها خلف وجهها الجميل؟. والطفل هناك، لا بد أن يكون سعيدًا، وما أدراه بالتعاسة؟.. ما ذا لو كان يتجرع مرارة اليتم كل صباح ...
وضع قلمه وأرخى جسده فوق كرسي خشبي حتى تعالت طقطقات عظامه واحتكت أرجل الكرسي مع السيراميك. نظر حوله، وبدأ يتفحص أوراقه، ويقرأ كتاباته ويقف عند عبارات بذاتها، وفي كل مرة يلتفت إلى الحمامة مخاطبا: عذرًا يا حمامة.