طه جعفر والسرد المتماهي في رواية فركة
صديق الحلو
فركة رواية طه جعفر الفائزة بجائزة الطيب صالح للابداع الروائي في دورتها الثامنة مناصفة مع رواية (الجنقو مسامير الارض ) لبركة ساكن. فركة امها كادوقاي وعماتها برقي وكادولاي .وزوجتي ابيها كمكامة وكادي. فركة نشأت في بيت عز وجاه في الجبال الغربية وهي ابنة سلطان ود شريف ودرحال. فركة الابنة الوحيدة لامها لذلك نشأت مدلله. خطفها النهاضة من جبل التروج مع رفيقاتها البائسات وبدأت رحلة الألم
فركة رواية جريئة كشفت المسكوت عنه. واقع مأساوي وقضايا انسانية. السرد في رواية فركة اغنية من الشجن الأليم. فركة تمتاز بجمال باهر وقوام اخاذ الكل يشتهيهاكعسل لايقاوم. وفركة تمتاز بالشجاعة والاقدام. التمرد والاحتجاج وهي الشابه الفتيه التي أخذت في الأسر دون إرادتها.النهاضة متنكرون في هيئة جلابة جاءوا لبيع الملح والقرنفل والدمور والخرز واقمشة هندية. يبايعون بعملة الفونج(المحلق) أو يقايضون بجلود النمور والزرافات والتيتل والافيال.والعاج وريش النعام. النهاضة يتزعمهم الزاكي وعوض الكريم. قرية كاسي يسكنها شريف ودرحال الكجور والد سلطان ابو فركة. وشريف الكجور يشفي المرضي ويجد الرايحة وينزل المطر. الزاكي عند وصوله كاسي وهو في مجلس السلطان ود شريف رأي فركة اعجبته. قال في نفسه يجب اخذها عذراء الي شندي او المخيرف او سنار أو الحلفايا أو اربجي. هناك ساجد من يدفع فيها الكثير. فركة صبية ناهد. فرعاء. صدرها عاري. واثداؤها منتصبة. شفتاها مكتنزة وممتلئة بابتسامات وادعة. واسنانها في بياض الودع وانتظامه. يطوق جيدهاعقدمن الخرز المخاوي الازرق. فركة في لون الابنوس كانت بشرتها. ناعمة كالحرير بشعر في لون الكاوكاو جمالها الفائر حديثها كموسيقي نسائم الضحي الهادئة. فركة في الثالثة عشر من العمر ندية طرية كالزهور الجبلية. وتواصل الرواية ايقاعها بحبكة فنية عالية. طه جعفر كاتب ممتلك ادواته وناجح يدهشك بالتفاصيل الصغيرة والمعاني العميقة والصور. في لغة ثريه ونديانه. عكس لنا الحياة في الجبال. وكشف خبايا النفس الانسانية في أسوأ تجلياتها بخيرها وشرها. صراع فركة مع الاقدار. والموت المأساوي لابن عمها تيه في باجه ام لماع. الثعابين الغادره اب دفان. واب درق. كان عوض الكريم يهدهد الجمال بحدائه العذب لتمضي في السفر المتعب:
الليلة الصعيد جاهو المطر مترادف.....
ولي بلد التروج سالت جداول الجارف....شفناه الوراق جنب التياتل واقف....
والدود العنيد فوقن طريفو يرافف...
ويرد الزاكي:
الهمباته نحن اصلنا معروفين.
بلا حق الرجال ماعندنا تعيين..بنشيلو حمرة عين
..بي موت بي حياة لازم نرضي ام زين. عرفت فركة ان خادم وفرخة هما اسماها الجديدان اللذان سيناديها بهما الجلابة نهاضة الشؤم. هذه اللغة عندها سم أصاب جسدها وشرخ صورة العالم في ذهنها واثخن روحها بجراح لن تندمل. فركة الآن انحلت عقدة لسانها وتستطيع أن تنطق الكلمات كما تسمعها من عرب دار صباح والغديات والفور. لم تجد روح فركة جنبا تضطجع عليه غير رماد الذكريات من عوالمها المسروقة. نامت الفتيات وأشرقت عليهن شمس حزينة. نشرت ضياءها الباهت المعادي علي الافق الممتد غير المنتهي للرمل والعذاب. رواية فركة رواية مغايرة ومفارقة ومتمردة علي السائد هنا تأتي عظمتها في دلالاتها التاويلية فهي نص مفتوح علي كافة الاحتمالات باشاراتها المعرفية في الحقل المعرفي الذي تشتغل عليه. هذه هي بداياتنا وجذورنا لابد أن نعترف بالاخطاء .نصلحها ونتصالح معها. كشف المستور عنه يرعب الزواحف ويصيب اخرين بالتقزز والتقيوء. قابلت فركة رجال ملامحهم باردة في عيونهم قسوة الجند المحايدة. وصلت ووجدت قرب الماء معلقة علي اشجار الدوم والجميز والحراز التي تنتشر في فضاء الحوش. ساد صمت سميك ومرعب اشرق شيء من وجه فركة غادرها امل كبير في شيء ما. واحتفل الزاكي وعوض الكريم بالوصول:
الليلة الفريق بي عزو يتنبر
تفوقوا الزاكي وعوض الكريم الاخدر
شفتن يا البنات عز الرجال والعسكر..في شندي البجيها الركاب وفر....
واقفين للبطان ماتعرفوا الجرية...ماقاعدين في البيوت للشراب والشيه
مارقين لام سيوف فوق السهول ام صيه.
وخارتين للعبيد من جبال السبيه.
الليلة الرزيم من البنادق مارق
والزاكي العظيم البي الفضل مدافق
وجاكم خبر عوض الكريم مترافق......بي سيفا أصم فوق الرقاب متشانق...
استرجعت فركة احباطها ونظرت لجمال جسدها الذي غادرته الروح المتمرسة في عشق الحرية. منذ مغادرتها كاسي وهي ماخوذة بعنف النهاضة وغدرهم الي الأسر والاسترقاق. سال دمع لم تعرف مثله إلا عندما مات ابن عمها تيه علي تخوم جبل الداير عند بداية باجه ام لماح. شق الصمت دوبيت عوض الكريم:
جدك ودحمد سمو الخريف القاش....في الجود والكرم من عرضوا مابنقاس. دا الهيلو الكرم يا نسلة العباس.
ورد الزاكب بدوبيت مغاير:
كبري ام نفايل ما داوت قليبي النازف.
جيتكم يا الحبوش فوق الحزن مترادف. وقلبي الما سكت تهتف عليهو هواتف.
فركة ام سماح حاقت عليهو بالتالف.
عوض الكريم والزاكي همباته. لصوص وشذاذ آفاق وتجار رقيق. يسافرون من رفاعة عبر البطانة الي الفاو.كان الطريق خاليا وموحشا. لا انيس ولارفيق سوي الصي. المجنون بسموم نهاره ونجوم ليله. قال الزاكي:
من جوف ثرواته واحلامه المخذولة:
ريدك يا ام مشاطا بالخرز محزوز....
خلاني في هما كثير مابجوز...
كان فتك اجيك وأرجع عليك ملزوز
...بي كلمات غناي في عزك المكنوز.
وقال عوض الكريم:
فركة ام رشيم ست الخديد الناير.
الفاتت بنات جبل التروج والداير. بي حسنا مديد في تيهو الغريب ومغاير. ست البسيم الضوا والنهيد النافر . تنظر فركة للبعيد رغم الشقاء إلا أن هناك بصيص من الامل حيث رجعت لاهلها وتزوجت بعجبنا حيث الخصوبة والنماء والجسارة.فركة رواية شيقة بفضاؤها العذب وروحها الوثابة ولغتها الشجية وطقسها الرائع. بددت وحشة ايامنا. الاحزان والجراح.واستطاعت أن تغوص بنا في اعماق المسكوت عنه. الماضي الصعب. هذا عمل ادبي كبير لمؤلف متمكن. محترف. باستعماله لتكنيك الكتابة غير مفاهيمنا لكثير من المسلمات. ابداع جيد ومتميز ولج فضاءات غير تقليدية وطرح كثير من الأسئلة. لماذا كل هذا الشر؟
وكيف هو الطريق إلي الخير! هذه هي الكتابة التي تخلد تظل في الذاكرة الجمعية للامة تفتح الاسئلة والآفاق معا.
الكدرو 12/12/2012