الفرق بين الإيقاع المجرّد والإيقاع العربي، وأهمية علم عروض الشعر العربي لعلوم اللغة العربية:
بحور الشعر هي قوالب صوتية موسيقية تُسكب فيها تراكيب اللغة المفهومة، فتجتمع بذلك في قوالب الشعر روعة الموسيقى المطرِبة، وروعة البيان والتصوير اللغويان، فتكون بذلك محببة للآذان والأذهان. فالمتلقون للشعر المتذوقون له، لا يقبلون من الشاعر أن يقول لهم ما يعرفونه بالطريقة التي يعرفونها، إنما هُم يتوقعون منه أن يقول لهم ما يعرفونه بطريقة لا يعرفونها. (الجملة في الشعر العربي، ص 22)
وهذا هو الدافع الأول لنشوء الإيقاع الصوتي اللغوي، والذي أصبح البشر يطلقون عليه مسمّى (الشعر). وتالياً برزت الحاجة لدراسة الناحية الصوتية والإيقاعية لهذا الشعر، من أجل محاولة فهمه وتقعيده، أو لأجل محاولة تقليده عند النظم؛ والذي أصبحنا نطلق عليه مسمّى (علم العروض). فعلم العروض يبحث في الإيقاع الصوتي اللغوي بهذا الاعتبار الذي قلناه. وبذلك يتضح لنا أنّ مفهوم الشعر أوسع من مفهوم العروض بكثير.
والعرب يتعلمون علم العروض العربي لأسباب متعددة، فعامة العرب يتعلمونه لِما استقرّ في الأذهان من أنّ نظم العرب الجاهليون ومن هم في حكمهم، هو أعلى طراز من النظم يطمح إليه الشاعر العربي. ولذلك هم يتعلمونه من أجل تصويب ما نظموه ليكون على طريقتهم. أمّا خواص العرب، البحّاثة منهم خاصة؛ فيتعلمونه لعلاقته بعلوم اللغة العربية لكونه لازماً لها. وقد ذهب الشنتريني (ت 550 هـ) إلى أنّ العناية به مهمة في الدين أيضاً، متعينة على كافة من يقوم بها من المسلمين، فهو الحجة التي يُرجع إليها في تفسير ما أُشكِل من كتاب الله تعالى، والمفزَع الذي يلجأ إليه في بيان ما استبهم من حديث رسول الله ﷺ؛ فالجهل بأوزانهم يؤدي إلى تغيير اللفظ، وهذا يُبطِل الثقة بكلماته فيمنع الاستشهاد بلغاته لتعرضها للاحتمال عند مَن يجهل الوزن. (المعيار في أوزان الأشعار، ص 11)
والذي يجب على معلّم ومتعلّم العروض العربي أن يدركه، أنّ هناك فرقاً جوهرياً بين أمرين هما في غاية الخطورة إذا لم يُفرَّق بينهما، الأول: أنّ الإيقاع مجرّداً هو إيقاع. فأن تُبدع كشاعر سلسلة صوتية وتمضي عليها في كل أشطر قصيدتك، ودون إمضاء للقانونين الصوتيّيَن عليها [التكافؤ والخبب]، فهذا إيقاع كما قلنا، سواء وافق نظم العرب أم لم يوافقها؛ وهذا التقرير صحيح أيضاً مع عَروض غير العرب.
والأمر الثاني: أنّ محاولة معرفة القوانين الصوتية والإيقاعية التي أمضاها شعراء العرب المعتَد بنظمهم على شعرهم المتوج بالقافية، لخلق إيقاع ثانوي يسير بموازاة الإيقاع الأولي في القصيدة. وبعد ذلك محاولة معرفة طبيعة القوانين الإيقاعية التي راعتها قرائحهم، وصناعة نظرية عروضية مع مسطرة لها لقياس لذلك، لأيّ سبب كان (1)؛ فهذان أمران مفصولان عن بعضهما تماماً كما ترى.
(1) فقد يكون السبب وراء ذلك هو من أجل فهم العروض العربي في ذاته، أو من أجل تسهيل سير الشاعر الآتي بعدهم على ما ساروا عليه؛ رغبة منه بذلك أو رهبة من الخروج على قوانينهم، وإمّا لمحاكمة تلك السلاسل في بطون الكتب القديمة التي غابت عن الخليل عروضياً. أو لمحاكمة السلاسل المستجَدة بعد عصر الخليل عروضياً؛ هل هي موافقة لقوانين العرب في النظم أم مخالفة لها.
فالتفريق بين هذين الأمرين جد خطير، لأن له تبعات على باقي علوم اللغة العربية. ففي ظل أنّ الشعر الجاهلي وما هو في حكمه، هو من أحد مصادر المواد الخام الرئيسية في استنتاج وتقعيد قواعد اللغة العربية والنواحي الصوتية، وتعلّق هذا المصدر بلغة القرآن الكريم ومحاولات تفسيره؛ فإنّ معرفة الأصول الصوتية الصحيحة التي قام عليها عروض الشعر العربي، ومعرفة القواعد الإيقاعية الحقيقية الناظمة للشعر العربي [أحكام الإيقاع العربي]؛ هي من الخطورة بمكان لعلاقته بما ذكرنا. فمعرفتها تَـقي من الوقوع في الخطأ عند إرادة استنتاج التقريرات النحوية واللغوية من المفردات والتراكيب اللغوية المسبوكة في قوالب أشعارهم. فقد يتوقف معرفة تشكيل الكلمة الصحيح في السلسلة الشعرية، لارتباط ذلك بتصريفها أو حركة إعرابها مثلاً، على موقعها العروضي في السلسلة.
وقد يحتاج الباحث النحَوِي أو الباحث اللغوي، لعلم العروض العربي من أجل التدليل على ظواهر صوتية، على اعتبار أنّ العروض العربي هو الميدان الحقيقي لاختبار النظريات الصوتية كما قلنا وكما سنرى. أو قد يحتاج هذا الباحث لمعرفة العروض العربي من أجل التدليل على ظواهر نحوية صحيحة في العربية، أو حتى على الظواهر الخاطئة التي جلبتها ضرورة شعرية متعسفة أو مقبولة مع كراهة، ولم يجلبها النحو. وفعلاً قد فعل اللغويون العرب ذلك وما زالوا. (2)
(2) مما يدل على أهمية شعر الجاهلية والعروض في أبحاث العربية، أنه كثيراً ما يستخدم ابن جني [ت/ 392 هـ]، وهو اللغوي والعروضـي الألمعي، تقريرات نظرية الخليل العروضية في إثبات قضايا صوتية ولغوية، أو نفيها؛ ومن ذلك (مثلاً لا حصراً)، أنه ارتكز على كيفية فصل الخليل الرجز عن الكامل في نظامه، وفصل الهزج عن الوافر. ولأن نظرية الخليل لم تخلو من أخطاء بنظر صاحب عروض قضاعة؛ وخاصة في هذه القضية؛ فقد انتقل هذا الخطأ لابن جني. وهو معذور في ذلك، لأنه ليس هناك نظرية عروضية تستحق النظر في زمنه، إلّا نظرية الخليل. وسنرى التفصيل العميق لهذا الخطأ الذي وقع فيه ابن جني في نظرنا، وذلك في نهاية النظرة الثانية على أحكام الإيقاع العربي، تحت عنوان (قاعدة الفصل بين النظامين الصوتيّـيَن، وقضية الإدماء، بين نظام قضاعة ونظام الخليل).
وهذا التفريق بينهما يجر إلى الفصل بين نقطتين أُخريين مترتبتين عليهما، ألا وهما: أنّ النظم بهدي من قوانين العرب، بنظر الباحث بعد استخراجها واستحقاقها لدرجة ظن عالية [درجة الثاقب فما فوق]؛ لا يعتبر خروجاً عن قوانينهم، ولا تجديداً في أصولهم، إنما هو تجديد على قوالب بحورهم يحتملها نظامهم. وهذا الكلام أكثر ما يصدُق إنما مع نظرية قضاعة، فنظرية الخليل تعجز عن الحكم على ذلك.
أمّا النظم بغير هدي من قوانين العرب، فهو لا يعتبر تجديداً بأيّ حال من الأحوال، إنما هو خروج عن نظام شعر العرب. أو ربما ظنّ عروضي أو شاعر، أنّ هذا النظم موافق لقوانين العرب وهو ليس كذلك؛ ومثال هذا سلسلة الدوبيت غير العربية، والتي حاول الدماميني إلصاقها بنظام العرب، مستعملاً بعض التقريرات الباطلة في نظرية الخليل. (الغامزة، ص 20)
أو قد يكون العكس من ذلك هو الحاصل، أي ربما ظنّ عَروضيّ أو شاعر، أنّ هذا النظم غير موافق لقوانينهم، لكنه يكون موافقاً لها. فهذا الاضطراب الأخير سيكون سببه عُقم النظرية العروضية ومسطرتها التي جاءت لتصف وتـقنّن عروض شعر العرب. فلا يغب عن بالك في هذا المقام، أنّ أيّ نظرية عروضية حاولت فهم الإيقاع العربي، تقبع ضمن خانة الظن، بما فيها نظرية الخليل التي لم تزاحمها على الصدارة نظرية أخرى، حتى جاءت نظرية قضاعة فزاحمتها وقهرتها.
وعلى ذلك، ففهم العروض العربي، ما يجوز فيه حقاً وما لا يجوز، وما هو حسن وما هو صالح وما هو قبيح، أي ما هو كسر نغم وما هو كسر وزن أو كسر إيقاع. ومنها ما هو قابل للإصلاح مع تأويل ممكن غير متعسّف، وما هو غير قابل للإصلاح لا بتأويل ممكن ولا بتأويل متعسف؛ هو ضرورة للباحث النحَوِي واللغوي في اللغة العربية. وهو ما سوف يساعدهم به عروض قضاعة لأنه معنيّ بإيقاع الشعر العربي الجاهلي وما سار على نهجه حصراً. (3)
(3) للدكتور محمد حماسة عبد اللطيف بحث صغير شيق عن كيفيّة قراءة النص التراثي، وبيان اثر العروض في ضبطه وتحقيقه، فارجع إليه. كما أنّ له بحثاً آخر على درجة كبيرة من الأهمية، ألا وهو (لغة الشعر - دراسة في الضرورة الشعرية).
تنبيه: ليس موضوعنا هنا ولا في الكتاب الأم لعروض قضاعة، بحث فيما لو كان حقاً أنّ اللغة العربية أكثر ما تستطيع التكيف مع الإيقاعات العربية، وغيرها من اللغات لا يستطيع. ومع ذلك، فالإجابة المختصرة على هذا التساؤل حاضرة في ذهن أبي الطيب البلوي. فالعربية واسعة الحيلة من دون كل اللغات، لأكثر من سبب؛ فيمكنها التلبّس بأيّ إيقاع تريد.
أمّا غيرها من اللغات فيمكنها النظم على إيقاعات العرب، لكن نَـفَسها لن يكون طويلاً لتُسكب تراكيبها في قصائد عربية الإيقاع؛ حتى لو خلت من القافية الموحّدة الضاغطة على اللغة وعلى القرائح؛ وهذا يعني أنّ قريحة شاعر هذه اللغات غير العربية، لن تكون بمثل قوة قريحة شاعر اللغة العربية إطلاقاً. (ظن جازم).
صفحة "علم عروض قضاعة" عللا الفيسبوك:
https://www.facebook.com/profile.php?id=100064165384110