الحافلة التي لم أحلم بها
قصة قصيرة، بقلم: د. حسين علي محمد
.........................................
إذا كنت من سكان شارع خيرت أو أحد الشوارع القريبة من ميدان لاظوغلي، وأردت أن تذهب لجامعة القاهرة ـ مثلي ـ فما عليك إلا أن تركب الحافلة ذات الرقم 20 أو عشرين بشرطة، ويا ويلك إن كنت!!
فهذه الحافلة نادراً ما تأتي، وإذا جاءت فزحمة لا تُطاق!!
ولا تقل لي إن كل الحافلات في مدينة القاهرة هكذا، فحافلات هذا الرقم من نوع فريد!!
وسأروي لك ما حدث لي معها خلال أقل من أربع وعشرين ساعة!
أمس ـ الثلاثاء ـ كان اليوم الدراسي الأخير في هذا العام الجامعي (كما كنا نعرف منذ أسبوع، ولكني اكتشفتُ لاحقاً أنه قبل الأخير) .. انتهت المُحاضرات في الثانية عشرة، صليت الظهر في مسجد الكلية الصغير (..وكان المصلون أقل من عشرة طلاب، في كلية فيها أربعة آلاف طالب! ما علينا!)، ثم انتظرت صاحب البريد عبد الحميد ـ والسجعة غير مقصودة ـ حتى يعود من مكتب بريد الجيزة بخطاباته، فوجدتُ خطاباً من والدي ـ الذي يكتب بصعوبة ولا يستطيع أحد غيري أن يقرأ كتابته (أو بالأحرى «أن يفك خطه») ـ ومع الخطاب حوالة بريدية باثني عشر جنيهاً «تُصرف من بريد الجيزة بميدان الجيزة» .. قلتُ: أصرفها غداً.
وأبي ـ عادةً ـ يرسل لي في كل شهر عشرة جنيهات، لكنه في هذه المرة أرسل مبلغاً أكبر، رغم أننا سنمضي ثلاثة أسابيع في الامتحانات وليس شهراً، لعله "يرشوني" .. حتى أذاكر، ولا أذهب لدور السينما في هذا الشهر العصيب، الذي يُتوِّج تعب الأسرة معي في عام!
في طريق الخروج ـ وقُرب باب الجامعة الذي يُفضي إلى الشارع ـ قابلتني زميلتي «أنوار»، وهي قرويّة من إحدى قرى طنطا، وتُسافر بالقطار يوميا .. ولم تغب أبداً عن أية مُحاضرة، قالت لي بصوت عال:
ـ محمود، اليوم ليس الأخير، تعال للقاعة 12 غداً.
ـ ماذا تقصدين؟
ـ الدكتور عبد العزيز الأهواني عاد من الخارج، ويريد أن يلتقي بالطلاب غداً .. من التاسعة إلى الحادية عشرة .. يريد أن يُدلي لنا ببعض الملاحظات قبل الامتحان!
كان الدكتور قد غاب عن محاضراته ثلاثة أشهر، وعلمنا أنه في أسبانيا، وحمدنا الله أن الدروس توقفت، وسنمتحن في الصفحات القليلة التي درسها لنا في أربعة شهور قبل سفره.
كدتُ أرفع صوتي معبراً عن سخطي، ولكني تذكرتُ أن أبي أرسل لي حوالة بريدية، وبدلاً من المجيء من لاظوغلي إلى الجيزة حيثُ مكتب البريد في الرابعة مساء .. آتي في الغد لحضور المُحاضرة وصرف الحوالة، وأضرب عصفوريْن (أو أحقق طلبيْن) بمشوار واحد!!.
رسمتُ ابتسامة باهتة على وجهي، ووجدتني أقول:
ـ على خير إن شاء الله، شكراً يا أنوار.
ووقفتُ أمام الجامعة ـ في ظلال أشجارها ـ من الثانية بعد الظهر حتى الثالثة إلا ربعاً أنتظر الحافلة الموعودة، حتى جاءت تتمخطر في خيلاء كعروس ليلة زفافها .. ولم أستطع أن أركب .. لسبب بسيط .. هو أن على الباب أكثر من عشرين شخصاً متشعبطاً، وكان عليَّ أن أركب الحافلة ذات الرقم 12 بشرطة للسيدة زينب التي تفوت بكثرة، وأنزل عند دار الهلال بشارع المبتديان ـ وأمشي إلى لاظوغلي! فقد كففت عن الشعبطة على الباب منذ أن وقعتُ ـ منذ شهريْن ـ أثناء رجة عنيفة في الحافلة 20 دفعت بي من الباب إلى أرض الشارع، وأشكُّ الآن في أن ضلوعي سليمة! ووقعتُ أمام ترام .. لولا أن سائقه ابن حلال، ولولا أن لي بقية من عمر، لكنتُ الآن في عالم آخر!
في صباح اليوم (الأربعاء) .. انتظرتُ الحافلة أكثر من ساعة، ثم جاءت إلى المحطة محمَّلة، فهي تُُعبئ من أمام محطة دار الهلال .. والسنية .. والمالية .. ثم تجيء ولا مكان فيها لقادم جديد!
.. وكان عليَّ أن أركب الحافلة رغم كل شيء.
قلتُ وأنا على الباب للشاب الذي يسد الطريق بمنكبيه:
ـ لو سمحت يا أستاذ!
قال في لهجةٍ اجتهد أن تكون رادعة لأمثالي من الركاب، الذين يريدون ركوب الحافلة رغم الزحام البادي:
ـ ليس في الداخل مكان .. أنت ترى أمامي سيدات .. يعني لا أقدر أن أتحرَّك!
دفعني شاب يلبس بنطلوناً أزرق، كان راكباً على الباب، ولكنه نزل، وأتاح لي أن أركب، ثم تشعبط على الباب مثلي:
ـ يا أستاذ أنت مؤدب قوي .. تقول له لو سمحت!!
وأضاف في صوت آمِر:
ـ زاحِمْ وادخلْ .. لكيْ أدخل وراءك!
ولم أجد بدا من المزاحمة والدخول.
جهاز الاستقبال يلتقط مُناوشات من حولي؛ المرأة البدينة تقول للشاب الذي كان يسد الباب بذراعيْه:
ـ لوْ سمحت تأخَّر قليلاً .. أنت تلتصق بي!
صوت رجل عجوز في السبعين:
ـ يا خبر .. ضلوعي تكسّرتْ!
ـ متأسف يا بابا.
ـ .. كسرت وسطي بذراعك
ـ أبوس رأسك يا عمي
العجوز في قرف:
ـ لا أريد أن تبوسها .. ولكن تأخَّر قليلاً لو سمحت .. حتى أستطيع أن أتنفس!
يُبعد الشاب رأسه إلى جهة أخرى، في قرف:
ـ إيه الحكاية؟! .. ما قلت لك آسف.
زميله الشاب يستظرف:
ـ لا يا سيدي لم نصطلح .. لازم تبوس رأسه!
ويقهقه:
ـ الأتوبيس بطيء .. ماشي كالسلحفاة.
المنيرة .. المنيل .. كوبري الجامعة.
كان عليَّ أن أقترب من الباب، ولا بد أن أستسمح الشاب القريب من الباب مرة ثانية.
.. وحاولت أن أخترق الكتلة البشرية الصلبة.
العجوز لوى شدقيه، وسقطت نظارته فوق أنفه، لكي تتسع حدقتاه وينظر لي من فوق النظارة:
ـ تفضَّل يا سيدي المحترم.
ولا يتحرك خطوة واحدة!!
ويدفعني قاطع التذاكر بشدة:
ـ إلى الباب يا سيد .. حتى لا تعطلنا ..
وفي غناء قبيح:
ـ لو سمحت .. انزل بسرعة!
اكتشفتُ أن النثر من الممكن تلحينه وغناؤه، وأدركتُ عبقرية أولاد سيد درويش وأحفاده!
دفعني الشاب ـ والحافلة مازالت مندفعة ـ دفعة كادت تودي بحياتي، وحياة أربعة على السلم.
الأورمان..
وأنزل قبل محطة الجامعة بمحطة؛ ففي مرات كثيرة سابقة كنتُ لا أتمكّن من النزول إلا بعد محطتين أو ثلاث محطات من محطة الجامعة.
حمدتُ الله لأني نزلتُ كامل الأعضاء، ولم أفقد جزءاً من أجزاء جسمي في موقعة النزول!
الساعة التاسعة إلا دقيقتين .. عليَّ أن أسرع الخطى حتى لا تفوتني المحاضرة الطارئة عن الأدب الأندلسي، فهي محاضرة مهمة، وتخص الامتحانات!
شيء خطير أوقفني عن الجري ..
.. لقد اكتشفتُ أنني قد سُرقت!!
سُرقت «محفظتي» ـ يا أولاد الحلال! ـ ..
سُرقت المحفظة التي أضعها في الجيب الخلفي من البنطلون، والتي فيها بعض أوراقي (فيها مشروع قصة لم تتم بعد!)، وفيها: نقودي، وبطاقتي الشخصية، والحوالة البريدية التي أرسلها لي والدي بمصاريف الشهر الأخير، شهر الامتحانات !
تذكرت الفتى الواقف على الباب، الذي كان يدفع الجميع بمنكبيه وساعديْه، وزميله صاحب البنطلون الأزرق، الذي كان يدفعنا بظهره!! وكانا يتبادلان الضحكات والنكات، وثالثهم ـ الذي يتقاسم معهم الإيراد «محصِّل التذاكر»!!
وكان عليَّ ـ بعد حمد الله ـ أن أفكر في العودة بعد انتهاء محاضراتي في الحادية عشرة .. بعد ساعتيْن .. في آخر أيّام الدراسة!
عليَّ أن أقطع المسافة من الجامعة إلى لاظوغلي ـ وهي تقترب من الكيلو مترات الثمانية مشياً على الأقدام.
ووجدتُ نفسي أقول ـ متجاوزاً أحزاني ـ شكراً لك أيها اللص الذكي، فقد أرحتني وأرحت ضلوعي من رحلة الموت مرتيْن يوميا!!
ووجدتني أحدث نفسي:
يُمكنني أن أعيش في القاهرة بلا بطاقة هوية، قلم يسألني أحد عنها طوال سنتيْنْ ..
لكنْ ماذا سأفعل في «مصروف» الشهر الأخير؟!!
ضاعت مائة وسبعة وثلاثون قرشاً، هي كل ما معي.
وضاع مشروع القصة التي كانت تؤرقني وتقض مضجعي خلال الشهرين الأخيرين ..
وضاع صك حوالة قيمتها اثنا عشر جنيهاً بالتمام والكمال،
فهلْ يصرفها لي مكتب بريد «الجيزة» بدون «صك»؟!!
وتذكّرت ـ وأنا أبتسمُ في مرارة ـ أنني ليس معي ما يدل على هويتي إلا بطاقتي الجامعية، وهي ـ للأسف ـ غير معترف بها في البنوك أو مكاتب البريد!!
المساء 28/3/1970
ـــــــــــــــــــ
*نشرت في المساء بعنوان «رحلة الموت مرتين يوميا».