.
لا أذكر كيف اقتحمتِ حياتي . . أو متى كانت البداية . .
كل ما أذكره أنني كنت في الخامسة من عمري . . عندما أجهشت فجأة بالبكاء ؛ وسط دهشة الجميع ؛ و سؤال صامت يقفز فوق شفاههم :
- لماذا البكاء ؟ . .
و بكل براءة السنة الخامسة ، وبكل حسرة من فقد عزيزاً لديه ، وبكل عفوية . . كان الرد :
- ( عشان مصر اتغلبت )
بدا لي حينها أنهم لم ينتبهوا لكلماتي جيداً ، أو ربما لم يفهموها ، فقد زادت دهشتهم و لمعت أعينهم بعشرات الأسئلة التي تحاصرني تطلب التفسير . .
استدركت موضحاً :
- ( قالوا في التلفزيون ان مصر اتغلبت في الحرب )
فاجئنني ردود أفعالهم . .
تعالت ضحكاتهم بشكل متواصل لا يقطعه سوى بعض التعليقات الساخرة التي لم أميز منها إلا جملة واحدة قالها أبي :
- هذه الحرب كانت منذ سنوات وسنوات ، وقد انتصرت مصر بعدها ، وستبقى منتصرة إن شاء الله .
لم تكن الإجابة مقنعةً بالنسبة لي ؛ لم تستطع أن تذيب مرارة الألم التي غلفت دمعاتي . . لم تخفي ملامح الحزن التي اكتسى بها الوجه الطفولي . .
- لماذا يضحكون لهزيمة مصر ؛ حتى لو كانت هذه الهزيمة منذ آلاف السنين و ليس منذ عدة سنوات ؛ أليس من المفترض ألا تُهزم مصر أبداً . . لماذا أشعر أنا بداخلي أن هذا هو الصواب ؟ . .
تركتهم غاضباً ، أسرعت إلى غرفتي ، أغلقت بابها خلفي ، كنت أريد أن أبكي بعيداً عن أعينهم ؛ أن أهرب من ضحكاتهم الساخرة ، أن أتجرع بمفردي مرارة حزني .
يومها لم أكن أدرك لماذا فجّرت كلمة ( مصر ) بداخلي كل هذا الحزن . . كيف استطاعت تلك الحروف الثلاثة أن تؤثر فيّ . . من منحها الحق في أن تبكيني ؛ و أن تضحكني ، أن تسعدني ؛ و أن تحزنني ، أن تقودني بدون أن أشعر أو أفكر ، أن تقرر أفعالي و تصرفاتي . .
لم أكن أدرك يومها ماذا فعلت بي مصر . .
أنتِ وحدك كنتِ تدركين . .
تدركين أن الطفل بدأ ينمو ، وبدأت تنمو معه مداركه . . هو الآن يستطيع أن يميز الكلمات ؛ أن يعيّ معانيها ؛ أن يتأثر بها . . هو الآن يمكنه أن يفهم .
و كان يجب أن تتدخلي سريعاً . . أن تحيكي مؤامرتك الأزلية ، أن تنسجي خيوطك حول مدارك هذا الطفل ، أن تنتزعي قلبه لتعيدي تشكيله كيفما تشائين ، أن تحتلي كل مشاعره ، أن تشغلي كل مساحات تفكيره ؛ أن تشرعي في صياغة كلماته .
و لكن الطفل يعشق الحرية ، يرفض كل القيود ، يكره الحواجز و السدود التي تعيق حريته ، يريد أن يعيش طفولته كيفما يشاء هو ؛ أن يردد الأغاني التي تعجبه ؛ أن يلعب اللعبة التي يحبها ؛ أن يلقي بها أو حتى يحطمها ؛ أن يُطلق العنان لألوانه و فرشاته فيرسم قطة أو شجرة أو ربما يرسم لاشيء ؛ أن يختار من الألوان ما يعجبه . . فالطفل لا يهتم كثيراً بتناسق الألوان ، كل ما يشغله أن يكون حراً في اختيارها . . هو فقط يريد جزءاً من الحرية التي يتمتع بها كل أطفال الدنيا . .
- الحرية ؟!
منذ متى و حبك يعرف معنى هذه الكلمة ؟ إنه لا يعترف بها ، لا يبيحها ، لا يحتويها قاموسه . .
حبك لا يعترف إلا بشيءٍ واحد :
العبودية . . بل العبودية المطلقة
فالطفل لا يرسم إلا ما تشائين ، لا يلعب إلا بما تسمحين له ، لا يتغنى إلا بما ترددين على أسماعه . .
ولأن الطفل عنيدٌ بطبعه . . فقد قرر أن يثور ؛ أن يحطم قيودك . . أمسك بفرشاته ؛ ضرب بها الورقة بكل عنف . . إنه يتحداكِ ؛ يرسم لا شئ ؛ يصنع من الخطوط شكلاً عشوائياً بلا ملامح ، ينتظر بفارغ الصبر أن ينتهي ليثبت لكِ أنه قادرُ على الإفلات من خيوطك . .
و لكنك تتقنين المؤامرة . .
إنها الحقيقة . . فأنتِ تنسجين خيوطها بكل مهارة ، من السهل عليكِ أن تستميلي الفرشاة و الألوان ؛ أن تجعلي منهم مجرد خيوطٍ تستكملين بها صنع مؤامرتك . . فلا يمكن أن يرسم الطفل غير ملامحك . . هي فقط كل ما تسمحين له برسمه .
مزق الطفل الورقة ، ألقى بالفرشاة و الألوان بعيداً . . هذه المرة سيكون أكثر عنفاً ، سيبحث عن لعبة لستِ طرفاً فيها ، سيهرب من الصورة الرقيقة التي رسمها لكِ . . سيلعب لعبة الحرب . .
يجمع كل أدواته ، يرسم شخصياتها من وحي خياله ، يبدأ اللعبة . .
و لكن . .
حتى اللعبة تقحمين نفسك فيها ، تديرينها كيفما تشائين ، فهو بطل اللعبة و يجب عليه أن ينتصر لكِ ، وأن يهزم أعدائك .
يوقف الطفل اللعبة ، يحطم أدواتها ، يسرع إلى أمه ، إنها ملاذه الأخير في رحلة الهروب منكِ ، يدفن رأسه بين أحضانها ؛ يطلب منها أن تغني معه . . يأمل أن تحرره من كل قيودك . .
و تبدأ الأم في الغناء . . تتحرك الشفاه . . تهمس بمشاعر الحب و الحنان . .
و لكنها . .
لا تعزف غير حروف اسمك .
و تستمر المؤامرة . .
يكبر الطفل ، يقف على أبواب المراهقة ؛ يدق أبوابها بكل عنف و تمرد هذه المرحلة العمرية ، يريد أن يلفت أنظار الجميع لوجوده ؛ يريد أن يشعر الجميع بأن الطفل قد كبر ؛ أصبح له مطالب و رغبات ، وأن عليهم احترامها .
يرتدي الطفل عباءة المراهقة . . يتقمص كل ملامح عنادها و تمردها و عصيانها ، يرفض كل النصائح لمجرد أنها نصائح ؛ يخالف كل الأوامر لمجرد أنها أوامر ؛ يكسر كل الإشارات الحمراء و يتخطى كل علامات الممنوع ؛ يبحث عن شخصيته في كل ما هو غريب أو شاذ ؛ يبتكر تقليعاته الخاصة به ؛ يسعده كثيراً استنكار الآخرين لأفعاله و تصرفاته . . فهذا يثبت أنهم انتبهوا له و شعروا بوجوده .
أليس هذا ما تؤكده كل النظريات الحديثة في علم النفس ؟ أليس هذا ما يردده علماء النفس و التربويون و النفسيون ؟ . .
- كلهم كذّابون . . كلهم أفّاقون
فليتعرى زيفهم أمام حبك . . و لتتحطم كل نظرياتهم تحت قدميكِ
فالفتى لا يتمرد إلا على مخاوفه من حبك ؛ لا يعصى إلا نفسه الإمارة بالسوء إذا زينت له عصيانك ؛ لا يتجاوز إلا الحدود التي تفصله عنكِ ؛ لا يتخطى إلا الحواجز التي تعيقه عن معانقتك ؛ لا يرى ؛ لا يسمع ؛ لا يعشق . . غيرك
الفتى المراهق المتمرد يتحول - في لحظة - بين ذراعيكِ إلى طفلٍ رضيع أسلم شفتيه لثدي أمه .
و تستمر المؤامرة
الطفل الصغير و المراهق المتمرد ؛ أصبح الآن شاباً يافعاً ، أكسبته سنوات عمره الكثير من الفتوة و الحيوية ، أصبح يعرف أكثر ؛ يفهم أكثر ، أصبح قادراً على خلق شخصيته التي تميزه ؛ و ذاته التي ظل لسنواتٍ يبحث عنها .
قد حانت اللحظة المناسبة لكي يبدأ في رسم أحلامه ؛ لكي يسعى إلى تحقيق أهدافه الخاصة . .
و لم لا ؟ . . فهو يرى الدنيا كلها ملك يمينه ؛ يحيا فيها كما يحلو له ؛ يُشبع رغباته و طموحاته . . لا شيء يقف أمام شبابه ، لا حدود تمنعه من الانطلاق . .
- لقد أصبح هذا الشاب خطراً يهدد سطوتك ، تهيأت له كل الظروف لأن يثور على قيودك ، أن يطالب بحريته التي صادرتها منذ نعومة أظفاره . .
كان لا بد أن تتحركي سريعاً . . أن تخمدي ثورة أحلامه ؛ أن تعيدي تغليظ القيود التي يتطلع للخلاص منها . .
احتضنته بكل عنف وقوة الشهوة التي تتأجج بها مشاعره ؛ اعتصرتِ رحيق الشباب المنثور على شفتيه ، نفثتِ سحرك في فمه ، تلاقت أنفاسكما ؛ توحدت ؛ ذابت حرارة أنفاسه .
لم يعد يشعر بالمتعة إلا في أحضانك . . فلا رغبات و لا شهوات و لا أحلام . .
نجحتِ في وأد الثورة حتى قبل أن تُولد . .
ألم أقل أنك تتقنين المؤامرة ؟
و تستمر المؤامرة . .
نضج الشاب ؛ أصبح ذا فكرٍ يُحترم ، ورأيٍ مسموع ، و قلمٍ مقروءةٍ كلماته . .
جاءك يطلب الحرية في أن يقول ما يشاء ، وأن يكتب ما يشاء ، أن يستغل قلمه كيفما يشاء ؛ فهو سبيله الوحيد لتحقيق نجاحاته ، من حقه أن يجني ثمار فكره و قلمه : النجاح ؛ الشهرة ؛ و ربما الثراء . . أليس هذا ما يفعله كل أصحاب القلم ؟ أليست حرية التعبير حقاً من حقوقه ؟ أليس هذا ما يتشدق به الجميع في عالمنا المتحضر ؟
- خرافةٌ حرية التعبير لديكِ . . ( ديكتاتورية ) حبك تمنعه أن يفعل ما يشاء ، عبوديته لكِ تفرض عليه ألا يتحدث بغير لسانك ، أنتِ فقط من تملين على القلم ما يكتبه . .
يكسر القلم ساخطاً . .
- لن أكتب ، إذا لم تسمحي لي أن أكتب ما أريد ، فلن أكتب ما تريدين
- كم هو ساذجٌ هذا الشاب . . كيف أصبح ذا رأي ؟!!! . . هل يعتقد بأنه هو من يكتب ؟ هل هو مقتنع فعلاً بأن قلمه يتلقى الأوامر منه ؟
تجاهله القلم ، عانق الورقة مرة أخرى ، بدأ يجري على السطور ، إنه يقذف حبره فوق الورقة ، يرسم حروفاً ؛ يصنع منها كلمات . .
لم يفهم الشاب معنى هذه الكلمات ؛ أو ربما لم يحاول أن يفهمها . . و لكنه أيقن أنكِ أنتِ من كتبتها .
لقد اكتشف الخديعة . .
اكتشف بعد كل هذه السنوات أنه كان ضحية لمؤامرتك التي نسجتها تحت شعار الحب . .
اكتشف كذب كل كلماتك الزائفة عن الحب
لا لم يكن حباً . . بل رقاً كاملاً . . عبودية مطلقة . .
فالحب اختيار ؛ للعاشق مطلق الحرية في اختيار معشوقته ، يمضي سنوات عمره في تشكيل ملامحها حتى تصبح صورةً مجسدةً تسكن خياله ، قد يختارها سمراء أو شقراء ؛ جميلة أو ذكية ؛ رقيقة أو متمردة ؛ . . . ليس مهماً ماذا تكون ، المهم أنه هو الذي يختارها . . ربما تتدخل الصدفة لتحويل اختياره . . قد تلعب الظروف دوراً في إعادة رسم هذه الصورة الخيالية . . و لكن يبقى الحب دوماً اختيار العاشق .
فهل كان حبك اختياري ؟
كثيراً ما طلبت منكِ أن تمنحيني الحق في تقرير حبك . . أن تتركي لي حرية اختياره . . أن تسمحي لي أن أمارس أبسط حقوقي في الحب . كنت مقتنعاً أنني ربما أحبك أكثر لو اخترتك لنفسي
سقطت تحت قدميكِ كل الحريات . . كان غرورك أكبر حتى من أن تتظاهري باحترام حقي في حرية الاختيار . .
فهل هذا حب ؟
لا لم يكن حباً . .
الحب لعبة أزلية بين اثنين . . اخترعها الأطفال ، وتقمصها العاشقون .
و قواعد اللعبة ثابتة منذ آلاف السنين : أحد العاشقين يختبئ ليبحث عنه الآخر حتى يجده ، ثم يختبئ الآخر ليبحث عاشقه عنه . . و هكذا
لكنك كنتِ تغشين ، كنتِ تتعمدين ذلك ، خرقتِ كل قواعد اللعبة ، كسرتِ كل حواجز الزمان و المكان ؛ فلا زمان أختبئ فيه منكِ ؛ و لا مكان أفر إليه من مطاردتك . .
كنتُ أصرخ :
- هذا غش ، يجب أن تتركيني أبتعد ، يجب أن تدعي لي الفرصة حتى أختبئ فتبحثي عني . .
كنتِ تضحكين من أعماقك ، تسخرين مني ، تستهزئين بمعتقداتي في نزاهة اللعبة
فلا نزاهةٌ في حبك . . و لا فرارٌ من أحضانك
فهل هذا حب ؟
لا لم يكن حباً . .
الحب أمواجٌ متقلبة ؛ تثور أحياناً ؛ و تهدأ أحياناً ، تحملنا أحياناً ؛ و تُغْرِقنا أحياناً . .
و كثيراً ما يعتريها الفتور ، أو يصيبها الملل و قد ترسو بنا أحياناً على موانئ الهجر و الخصام ؛ فنشتاق إلى العودة إلى بر الوصال . . و ربما يكون هذا أجمل ما في الحب : تأرجحه بين لوعة العذاب ، و متعة اللقاء .
و لكنك حرمتني هذه المتعة ، تجسّدتِ في وجودي ، توحدتِ في ذاتي ، سكنتِ كل مشاعري ، فلم أتجرع لوعة الشوق إليك ؛ أو أذق حلاوة اللقاء بكِ .
فهل هذا حب ؟
لا لم يكن حباً . .
ما بيننا - يا سيدتي - ليس حباً ، ولا علاقة له بالحب ، فكل ما فعلته - يا سيدتي - أنكِ تسّترتِ بعباءة الحب في محاولة لإقناع الجميع بأنني عاشقٌ يهيم في سمائك ؛ في محاولة لإخفاء ملامح المؤامرة التي جعلت مني عبداً صائغاً لكِ لا يملك حتى حق المطالبة بالتحرر من عبوديته . .
نعم . . أنا أعترف . .
لقد نجحتِ في استعبادي
نجحتِ في أن تنالي بعشقي لكِ صكاً أبدياً بالعبودية
فيا من جعلتِ العشق عبودية . .
لماذا لا تمنحيني الحرية . . و تجعلين العبودية عشقاً .
.