هل هجرنا اللغة الفصحى ؟
سؤال أصابه الملل وتسلل إلى وجدانه الوهن أجاب عنه الغابرون بمداد الفطنة وأنار شموع إجاباته المعاصرون ،عرفته ميادين اللغة والشهود عليه أولو الأمر والقائمون على تطبيق منهاجه ولنا الدليل الصارخ من خلال التجربة الميدانية يفنـِّد كل إفك تقمُص الزور دثار بهتان ، فاللغة العربية الفصحى أضحت حملا تنوء لحمله الألسن ، وتستعصي طلاسمها على الفهم هكذا يقول النشء الجديد .
معتزا مفتخرا بما يلوك من فضلات لغة غيره متباهيا بألفاظ لا تمت إلى ثقافته بأواصر رحمة ولا تربط تراثه بها إلا مظاهر احتظار أو تقديم اللغة قربانا على مذبح التغريب .
كثيرا ما ترشقنا أسئلة هجومية تستعر في جوفها شآبيب الغربة وفقدان الذات.
ما فائدة الفصحى ؟ ما دمنا نعيش في زمن العولمة ( ذلك اللقيط الشرعي )
والانفتاح على ثقافات العالم ولا حدود أمام رؤيتنا إلا قفر لغتنا وسدود نحوها ورجيع ما كانوا ينطقون ؟!!!
وما الجدوى من ضبط الكلمة ومعرفة حركاتها ما دامت الجملة تفهم والكلم الذي ننطق به يؤدي المعنى ؟
أسئلة لا يود السائل الإجابة عنها لأن الجدال عقيم وركوبته حمق الرأي طهم بغالها بفساد الثقافة وفراغ المخلاة، يمم وجه غربته شطر الضياع وبيده معول هدم تراثه وتناسي أمجاد أمة سادت .
تلك مشكلة بدأت واستعظمت وتطاولت أظافرها وبدت تؤتي أكلها من سقط الجني وحشف الكيل فاتسع الخرق على الراقع ، واستعر شواظ كيرها وتطايرت حمما على أسماع وألسنة أهليها حتى غدت وصمة عار أو غريبة في بيت أهلها ينظر إليها كداء استعصم على الشفاء ، ولكن ما هي الردود على تلك الترهات والنقائض ومجد الأمة أسير بلاغتها وتاريخ العزة ممهور بسدنة فصاحتها ، وحبلها السري مربوط بوشائج العروبة وبيانها ما دام القرآن يتلى بلسان عربي مبين على قلوب تكحلت أعينها بمراود الفطرة ،ولا غيرة على تراثنا إلا من خلال التعصب وحمل عصا البيان نهش بها وريقات البلاغة والحجة العصماء أمام المرددين لصدى الهجران ونبذ سمات اللغة
وهم يتناسون أن للغة العربية سمة تعتز بها وتتميز من غيرها بوجودها ، ومما يحز في النفس أن يجترئ على هذه السمة بعض الهدامين فيهاجموا الحركات ويحملوا على الإعراب ويدعوا دعوة صارخة جريئة إلى لغة ساكنة تنعدم الصلة بينها وبين الثراث الخصب الرائع ويحتجون( لذلك بلـُغيـَّات سلفت أو أنماط لحقت ).
نقول إن هدم اللغة والنعيب على أطلالها هو ضياع للهوية وفقدان الشخصية .
ولكن لماذا كل هذه الجرأة والتجني على اللغة بأنها سبب لـتأخر المجتمع وهي الرابط الأساس والمنبع الثر بين أقطار عروبتنا وبين مضارب ديننا السمح الكريم ؟
كيف يستطيع المسلم في شتى أصقاع الدنيا التكلم بلغة لا يأتيها اللحن، سامية على سارية الجمال والبيان ونحن عاجزون عن ترويض ألسنتنا على استقامة لفظها ؟ إنه العجب بعينه ، وكيف يتعلم الوافد الأجنبي لغة البلد الذي يأتي إليه ويتقن لهجته العامية والتي من خلالها يكتسب هوية القراءة المنسوبة إلى قطر بعينه .
إن تدجين الألسن سهل لو أرادنا ذلك بشرط التنازل عن عرش الكبرياء الفارغ والتخلي عن عقوق وهجرة لغته الفصحى والشفاء من عقدة التغريب.
لقد قامت الفصحى بدور الناظم لشؤون الحياة المتنوعة وكثيرا ما تكون لنا في حل معضلة كلامية نصل من خلالها إلى تلقين المعلومة موئلا نستظل بدوالي بساتينها لأنها طوق النجاة بل سفينة المعرفة التي بعنا مرساتها خردة على قارعة الكسل ورفوف الذل ، فاللغة العربية هجرت هذا القول جانب الصواب بل إنها رجمت بعد أن طلقت ،فذاقت الثكل مرتين كثيِّب اتهمت بالفحش من أهلها وهم يعرفون براءتها لكنهم يتلمسون فساد عذريتها فتنكر لها أبناء رحمها ممن أرضعتهم لبان الطهر واتخذت الصدر مهد دلال لهم ومرتع طفولة لغزلهم ومدخل صدق يلجون منه إلى دواوين الحماسة وعذوبة التصابي على شرفات المجد ، وما نراه على مذبح الفضائيات ما هو إلا دليل جحود يورث الكلالة ، فهو مجزرة لأواصر اللغة ونحن على ذلك شهود ،ولكن لمن المشتكى وحجة بعض القائمين على شاشات التلفزة يعلمون ذلك وأكاد أجزم بنظرية المؤامرة على عهد لغة وشعبها وتاريخها وثقافة أمة نهرق دمها على نصب الحداثة مستعيضين عنها بطلة جميلة بهية وسفور جاوز حد المألوف .
أليست الشاشة نافذة الثقافة ؟ وهل تسد نافذة ضعف اللغة بسفور الميعة وقسط الجمال ووفرة الدلع ولنا وفير الأمثلة تؤيد رأيننا .
إن نافذة الثقافة اليوم هي التلفاز تلتصق بها العيون والأعناق المشرئبة ،ومن خلالها تزكم الأنوف من قتار لغة غلـِّفـَتْ بدهن الشتات وقليت بأصابع الحيلة في قدور الضياع ، حلت مكان لغة كانت نبراس معرفة ومشكاة حُداة البلاغة
فهل تكفي المذيعة طلتها وجمالها وحسن منظرها كدمية شمع أذرفت عليها دموع الجان لسد العجز عن نطق كلمة وفيَّة الصلة بتاريخها ؟
البسمة والطلة المريحة لا شك فيهما راحة للقلوب ومتعة للوجدان ومن تتقدم للعمل كمذيعة لا بد أن تتوفر فيها مساحة من ربوع الجمال ولكن لو نظرنا إلى بعض المذيعات في محطات غربية لا نجد في بعضهن من الجمال ما يشبع فضول الصبابة ومع هذا فيهن حلاوة ، ولو سألت ما الفرق بين الجمال والحلاوة لأجبتك شاكرا : فالجمال ما خضع لمقاييس من طول ولون عيون وملاحة وجه...والشعر تمام الحسن .
أما الحلاوة فهي جاذبية روحية لا تتمتع بها كثير من دمى الصناعة ممن .....
تأتي المتقدمة إلى مسابقة التلفاز وهي تتسلح بالجمال ـ وما عدنا نعرف الجمال الطبيعي من المزيف فالبركة في صالونات التجميل ـ غير آبهة بنافلة اللغة وعندما يطلب منها قراءة نص أو قطعة أدبية أو خبر يختلط عليها الكلم وتتخذ العجمة سبيلا إلى لسان تهجن في مضارب العولمة فلا تستطيع لفظ كلمة كما رسمت، فتضيع بين جهل مقترن بالجمال ونص موسوم بالحسن والاتزان.وهذا القول ينطبق على المتقدمين الذكور .وإذا أخذنا مثالا على جاذبية اللغة وموقعها من الأسماع لوجدنا الكنوز ينوء بحملها أولو المعرفة وتكون حافلة بالمتعة مكسوة ببهاء النطق ورقة المعاني .
فمتابعة مسلسل جميل يطبع بالحسن ـ إن اتخذ الفصحى طريقا لعبور حواجز العقول ـ وشاهـُدنا القريب مسلسل الزير سالم لم تشكُ من سماعه أذن ولم تنطق ببنت شفة قلامة نقد للغته ، بل زادت عذوبته رنين اللغة وموسيقا حروفه المتناغمة تحت قيثارة المعاني !!!!
لا . .... لا ..... يمكن استبدال اللغة الخالدة برداء لا يستر ولا يقي حر العيون
لا يمكن مقايضة البائد بالخالد فالأساس هو اللغة السليمة والتابع هو الجمال .
وهنا لا بد من التركيز على لغة سهلة يستطيع المتلقي فهم قصدها فلا يمكن أن نقول مثلا ( عيطموس وشمردل وجونة بمعنى السواد .........) لأن زمان استعمال هذه الألفاظ قد أكل الدهر عليه وشرب ماء التطور على ضفاف معاجمه.
أسئلة كثيرة تدور في خلدي منها ما الطريقة التي عاشت فيها اللغة الكردية وقد حورب أهلها وسجنوا وأنا رأيت من القائمين على اللغة الكردية شيئا يستحق الإعجاب والتقدير كيف يعلمون أبناءهم مفردات وقواعد اللغة وهذا الأمر كان شيئا من المحرمات في زمن المد القومي العربي ورغم ذلك كانوا يخاطرون بدمائهم من أجل بذر نوى الثقافة الخاصة في تربة الروح . أليس التعصب للغة هو حياة الشعوب وتطعيمه ضد إنفلونزا النسيان والضياع في بحر لجِّيِّ من الأهوال التي تعصف بالحضارات ؟
كيف حافظ الغجر على هويتهم الثقافية وكذلك السريانيون والكلدانيون .؟
ألم تحيا تلك الشعوب بفضل روح اللغة القومية الخاصة بها ؟
فلماذا نـَسِمُ لغتنا بميسم التخلف والموت وهي التي استوعبت تراثنا وتاريخنا وثقافتنا وأطـَّرت قوميتنا إنها بصمة على جبين الخلود؟
إن الانفتاح على الثقافات الأخرى لا يعني أبدا التخلي عن اللغة الفصحى وهدم أركانها .
بالعودة للتاريخ نجد الأتراك قد تخلوا عن ثقافتهم الإسلامية ولغته وامتطوا عربة التغريب وكانت النتيجة كالغراب الذي أراد تقليد مشية الحجل فنسي مشيته الفطرية ولم يستطع مجاراة غيره بخطى سحرية.
وبالنظر إلى ما تبثه الفضائيات ، نرى أن اللغة هي الضيف الثقيل على أسماعنا فلا تكاد المذيعة تكمل جملة إلا وطعَّمت معانيها بكلمات لا تمت إلى العروبة بصلة ، ولا تكترث بوزن أو تكسير واستثني مما قلت بعض القنوات الملتزمة دون ضيق أو تبرم أو عنت بالفصحى ، تكتسي ألفاظها وقار البيان ورقة الجمال وكأني بها تغمز من قناة التواضع بجرأة الموقع تقول قد جمعت بين الحسنيين.
هل اللغة العربية معجزة وعصية على الفهم ؟ هي معجزة الخلود وقد صانها الله في كتاب مبرأ عن اللحن والخطل ، لكنها ليست عصية على الفهم فمن الذي حارب ضد هدم اللغة إبان العهد العثماني والتركي هم النصارى من بلاد الشام لماذا لأنها الرابط الوحيد المنزه عن الميل والدجل والهوى وهم أحق نظريا بالميل إلى لغة دخيلة .
إن قواعد اللغة المهجورة من أبنائها ليست مستحيلة الإتقان فهي لغة الفطرة والذوق كما أسلفنا ، حاول أن تتكلم على السجية دون النظر إلى قواعد الضبط تجد نفسك في مضارب نضرة خلابة ودع عنك غربة اللفظ تكون محترما في مقياس نفسك ، ومن حاول أن يتكلم الفصحى لا يجد عنتا ولا مشقة فمهارات قواعدها ليست أحاجي فهي منظومة وفق الإسناد الفطري والذوق السليم .
لغة إذا وقعت على أسماعنا كانت لنا بردا عـلى الأكبـاد
ستظل رابطة تؤلف بـيـنـنا فهي الرجاء لناطق بالضاد
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
الكويت في : 20/1/2006
مقال من شموع الوجدان
إن شعاع المعرفة ينطلق من قنديل الفكر ليضيء الوجدان بنور اليقين ، فينير ظلام النفس ، ويصل إلى مآق البصيرة ، فيحدد العقل درب الخلاص ، يحركه نسيم العاطفة فلا تعدم نوره ،بل تجمله ، وتلقي عليه رداء الفكرة ليغطي بها وحشة المغامرة فتبدو دمية شمع ، جسدا سويا يمثلها روح الإبداع ، فترتفع حرارة العاطفة لينضج ثمار العقل ، ويقوم الإنسان بقطف تلك الثمرات بأنامل الإقبال ، ولا يمكن للمعرفة أن تكون مشخصة إلا بشعاع الفكر.