أصــوات نعرفهــا
مجموعة قصصية
(دق جرس الهاتف بمنزلنا )...
تسابقت الأيدي لإلتقاط السماعة – فكنت الفائز – صوت رقيق اخترق مسامعي ...تسألت :
- من أنت؟
نظرت للجالسين ثم تلوت عليها اسمي .إنخراط متبادل في الصمت ، خذلتني موسيقى انقطاع الخط . - أكيد لست أنا المقصود – جادت علىّ نفسي بالكلمات تصبها داخلي . إلتفت أصابعي بسماعة الهاتف إحتضنتها إحتضان الطفل الصغير ، حتى مارت الأسئلة بوجداني .
- من تكون؟
- من تريد؟
كثرت إفرازات الأحرف والعلامات ،دارت الرحى برأسي .ألقى علىّ الجالسون نفس السؤال فكانت مني اللاإجابة بالصمت الطويل . لم يعبأوا بالأمر ،عادوا إلى نقر الكلمات بعيدا عن الحدث .لكن عقلي رفض أن يكون بعيدا . الرحى طحنت عظام الرأس بالفعل.
- من تكون؟
- ماذا تريد؟
توقفت الرحى لتأخذ قسطا من الملل . هبط عقلي للجالسين شاركهم نقر الكلمات . إزداد الإحتدام إندمجت الأصوات واخترق الجرس النبرات . لكن هذه المره جرس باب منزلنا الصغير . انتهى وقت الملل عادت تدور توحشت في الدوران بدأت تهشم نتواءات الجمجمة . تسابقت الأيدي لفتح الباب . فاز أخي الصغير بالجولة ، الكل يترقب ...... إلا اثنين من الجالسين اندمجا سويا في نقر الكلمات . ألقيت نواظري على أعتاب الباب. أسمع صوت تهشم العظام برأسي :
- من يكون ؟
- أه قد أخطأت السؤال. أقصد :
- من تكون ؟
- من تريد؟
نواظري مازالت عند الأعتاب تنتظر الإجابة ... انفتح الباب ..هـــه .. إنه بائع جوال . لم أهتم بما يبيع قدر إهتمامي بالشعور الذي غرسته أمي داخلي تجاههم وأنا صغير . حتى هذا الشعور مر عبر جسدي سريعا .شكرته قبل الإنصراف ، ذكرني بأمي - سامحه الله - .أعلمني إنغلاق الباب ماقاله أخي للبائع،عاد ليأخذ حظه من نقر الكلمات .تعودت على صوت التروس الدائره داخلي ونفس السؤال :
-من تكون ؟
-من تريد؟
خفتت الأصوات مع الأضواء بانزلاق بسيط نحو السكون . لحظات وبدأ يوم جديد غير مسار الإنزلاق. كان أخي أول من قص شريط نقر الكلمات ، و تهافت الأشخاص . انتظرت الأماكن أصحابها على مؤدبة الطعام، وقد حان اللقاء . اختلطت الكلمات بصوت طحن الأسنان للطعام ، رنين الأطباق يتطاير هنا وهناك حتى ارتطم بجرس الهاتف . لم تتسابق الأيدي فالكل قد انشغل بالطعام . ففزت بالسماعه بالتزكية أمسكتها بيدي أسندتها على راحة يدي الأخرى صمتت قليلا ،رفعتها نحو أذني ، ثم هتفت بعبارة استهلال المكالمات . فإذا بصوتها قد عاد من جديد . لم تسألني من أنا بل رددت اسمي ملتهجة بالسؤال .أجبت وقد تعطبت الرحا، ولم أعد أسمع صوت التروس للحظات لكنها لم تعد لتأخذ قسطا جديدا من الملل .
-نعم أنا .
ضحكة خفيفة أطلقتها ، وأعقبت بالسؤال عن أحوالي وأخباري فأسددت الأسئلة ثم هاجمتها بالسؤال :
-من أنت؟
ضحكتها الخفيفة أطلقتها ثانية لم يصلني منها سوى ترجرج الأنفاس ، ثم موسيقى التتر التليفونية تنهي الإتصال.
عاد السؤال : من تكون ؟
التففت ناظرا مؤدبة الطعام حيث لم يعد أحد من الجالسين الكل لم يعبأ بالأمر . غادروا كي يلحقوا بأماكنهم مجددا في منظومة الطوابير . لكن السؤال جال وعادت التروس بالدوران .
-من تكون؟
فهي تعرف من أكون . فقد سألتني عن أحوالي كأنها تعرفني عن قرب . تسألت باسمي كأنها اعتادت على النطق به . الأفكار صارعت الأفكار، وقضيت الأفكار على غيرها من الأفكار، ودق الجرس ليس جرس انتهاء جولة المصارعة كما تظنون إنه جرس منبه أخي الكبير يداعبه قبل موعد الإستيقاظ . لم أره منذ أمس . سمعت باب غرفته يزاحم الهواء . أدلف إلى الصالة متلفعا بمنشفته قابضا بيده مبعثرا بها ما تبقى من الكرى عن جفونه . بدأ هو بنقرالكلمات بعد أن انكشف الستار سألني باندهاش عن بقائي، وتخلفي عن ركب منظومة الطوابير . نظرت للهاتف وأسقطت الكلمات باللاكلمات، و بعد انتظار سألني :
-هل سأل أحد عني أمس؟
- قلت : لا.
- ولا اليوم ؟
-قلت : لا .
رفع كتفيه ثم أنزلهما واتجه للداخل صوب دورة المياة، وهو يجر خلفه صوت ارتطام نعله العتيق بأرض المنزل الخشبية ، وعاد السؤال :
-من تكون ؟
تنهدت وملأت رئتي بالهواء ثم اتجهت لغرفتي لإلتقاط حقيبتي المملؤه بهموم الناس . أسرعت كي لا أتخلف عن الركب المنشود . لكن عاد طابور الأجراس يشق جدران غرفتنا المستطيلة . اتجهت حيث تقبع الأصوات تحت الوسادة . إنه هاتف أخي الخلوي كاد أن يمزقها بنغماته. لم أهتم بالأرقام الظاهرة فأنا ممن يكرهون لغة الأرقام . حملت الهاتف إليه .انتفض في يدي كالطير الذبيح . صوت زخات المياه تتقابل معي واندمجت الأصوات مع صوت أخي المبلل بالمياه :
- رد على التليفون .
بحثت عن زر الاستقبال رفعت الهاتف نحو أذني وقبل التساؤل صدمني الصوت . صوت الفتاه ...... نفس النبرات .. نفس اللهجة . دارت الحرب داخلي بين الشك واليقين . ارتمت في الحديث ظنا منها أنني صاحب الهاتف . لم أسمع ما تقول ، فقد طغى صوت المعركة على الكلام . أخبرتها بأنني لست المقصود كما تظن . فكانت نفس الضحكة .... سمعت صوت تحطم الألات في عقلي ، وتحرك لساني بالسؤال:
-أنت؟
أجابت بضحتها التي ملأت أجواء الحديث :
- نعم أنا . ألا تعرفني؟
حركت رأسي المثقلة بصمت النفي . فألقت بالإجابه كي تغلق الألات من زر التشغيل وكأنها رأت تحرك رأسي المنهك .
-أنا أختك الصغرى . ألا تعرف صوت أختك الصغرى ؟
بالإجابه تفتحت جميع المسام واتسعت الحدقات . سمعت ضحكات أعضاء جسدي ، وقد سخرت من العقل المتخم بالأجراس والأصوات وهموم الناس. وأطلق اللسان سهم التعجب :
-أختي ؟!
تسألت بغيظ مكنون :
-لما أخفيت هويتك عني ؟
أجابت وهي على عجلة من أمرها وبدا لي من الأصوات التي التهمت صوتها الرقيق أنها بالعمل :
- سوف أخبرك في وقت لاحق فقد دق جرس المدرسة وأريد أن ألحق بالطابور كي لا أتخلف عن زملائي من المدرسات.
- مع السلامة ... مع السلامة.تهبط موسيقى التتر كي تنهي المكالمة.
محمد سامي البوهي
دمياط : 27/3/2002