"الحق أننا أمة أمية تنظر إلى الكتاب نظر المتعظم الخائف أو المنتفع العازف وما دمنا لا نرى الكتاب ضرورة للروح كما نرى الرغيف ضرورة للبدن فنحن مع الخليقة على هامش العيش أو على سطح الوجود " الزيات
إن النخبة المثقفة في هذه الأمة تمر بمرحلة الإنكامش والتقوقع الفكري . فإنتاجها وزخمها الثقافي يكاد أن لا يصل إلا القارئ و امتدادها يكاد أن لا يبصر النور . بل إن العوام و الجهلة أصبحوا ينافسونهم ويزاحمونهم بنياشينهم و ألقابهم الرنانة . فإذا أضفنا إلى ذلك مسألة الخطوط حمراء و مقص الرقيب و عملية تنضيد البوتقة الثقافية التي تتوافق مع درجة التخلف والأمية التي يعيشها المواطن العربي لعلمنا إلى أي مرحلة وأي هوة حضارية تردت بها أمتنا العربية.
فلا للقراءة لا للثقافة واقع نعيشه بكل ما تعنيه تلك الكلمة من دلالات و مؤشرات .فبناء على استطلاعات ورشة العمل العربية لأحياء القراءة و النتائج الصادرة من اتحاد كتاب الإنترنت العرب تبين إن الوقت الذي يستغرقه المواطن العربي في القراءة لا يتعدى الدقيقتين في العام بينما تصل في أوربا إلى ستة ساعات للفرد في العام . و أن عدد ما تطبعه الدول العربية بأجمعها يقارب المليون كتاب موزعة على ثلاثمائة مليون مواطن عربي 60% منهم أميون وأطفال و 20 % بالمائة لا يقرؤون أبدا و 15 % يقرؤون بشكل متقطع و ليسوا حريصين على اقتناء الكتاب ونسبة 5 % هم المواظبين على القراءة وهذه النسبة تبلغ المليون وخمسمائة ألف مواطن أي أن نصيب المواطن الواحد منهم أقل من كتاب واحد سنويا مقابل 518 كتابا في أوروبا و 212 في أمريكا للمواطن الواحد . والمشكلة لا تكمن بارتفاع ثمن الكتاب حيث تقول الأستاذة خديجة العامودي (( وعكس الأمية العربية التي هي أمية مفروضة فإن أمية المطالعة اختيارية فلا دخل بالموارد المادية على الإطلاق . أبسط الناس يقاتلون من أجل بعض الكماليات البسيطة لكنهم يستهجنون شراء كتاب ويتعللون دائما بارتفاع ثمنه وهؤلاء لن يقرؤوا حتى ولو عثروا على الكتاب بالمجان )) . وقد قمت وبمساعدة أحد الزملاء بتوزيع استبانة عن القراءة لمائة طالب في المرحلة المتوسطة و ثمانين طالبا في المرحلة الثانوية في أربع مراكز صيفية في المنطقة الشرقية فتبين لنا أن معدل ما يقرؤه طالب المرحلة المتوسطة يصل إلى أربعة صفحات في اليوم وما يقرؤه طالب المرحلة الثانوية يصل إلى 4 صفحات في اليوم .
و يعود السبب الرئيسي وراء ذلك العزوف أن كثيرا ممن لا يقرؤون " لا يملكون أية أهداف أو أية أولويات يضغطون بها على حاضرهم و يوجهون من خلالها جهودهم ". فما قيمة ثقافتنا وسعة اطلاعنا إذا لم تأتي بثمرة . وما قيمة تعدد معارفنا إذا لم نستطع أن نأتي بالجديد والمفيد.
وقد يكون لوجود وسائل التثقيف أخرى كالإنترنت والفضائيات جانبا من هذه المشكلة . و لعدم وجود المكتبة نتيجة لغلاءٍ في الكتب أو تدني في المدخول جانبا آخر .ولكننا لو تمعنا قليلا لوجدناها أسباب واهية و وهمية . فالفضائيات والإنترنت لا تستطيع أن تستبدل القيمة الثقافية للكتاب وليس بإمكانها أن تخرج العلماء و المفكرين و الأدباء وكما يقول نتيشه " إن أقرب الطرق بين الجبال هو الخط الممتد من ذروة إلى ذروة". فقد تكون الكتب خالية من المتعة والإثارة ولكنها الطريق الأقصر إلى أهدافنا ومآربنا العلمية والفكرية. أما التذرع بالحالة المادية التي يعيشها المواطن العربي وجعلها من الأسباب الجوهرية في عدم تكوين المكتبة وبالتالي العزوف عن القراءة . فهو أمر يدعو إلى السخرية والضحك . فقد تكون للحالة المادية دور ولكن الدور الأكبر يعزا إلى عدة أمور منها :
1-سوء الإنفاق وصرفه في الكماليات.
2-النظر إلى الكتب على أنها ترف واعتبارها خاصة بفئة معينة من الناس وهم طبقة المثقفين .
3-و عدم تقدير المجتمعات العربية لثقافة الإنسان وعلمه . فالمجتمعات العربية تقدر الفرد وفق
معايير بعيدة عن العلم والثقافة.
وقد يكون للتربية و دور المرأة بالغ الأثر في عزوف الناشئة عن اقتناء الكتب والقراءة . فقد تبين لنا من خلال الاستطلاعات أن العلاقة بين درجة المرأة الثقافية والعلمية و معدل القراءة لدى أبنائها علاقة تناسبية. و أن لوجود الفرد القارئ في الأسرة الأثر في تشجع بقية أفرادها على القراءة.
فلابد من وقفة لمنع ذلك النزيف الفكري و لا بد من دورٍ فعال للحد من ذلك الهدر في أعمار أسرنا وأبنائنا . فالقراءة لم تكن يوما ترفا فكري ولا حكرا قسري لفئة دون غيرها لكنها كانت ولم تزل سبيلا و منهلا لتوسيع مداركنا الفكرية والمعنوية . فعندما نطلع على أفكار من سبقنا أو نقلب آراءهم فذلك لا يعني حصولنا على فكرتين أو رأيين لكنه يعني تعزيز أفكارنا و آراءنا ووسيلة بأن نبدأ من حيث وقف الآخرون .وعندما نقرأ الكتاب ونسبر مجاهله فإننا لا نعيش بحياة واحدة ولكننا نعيش بأكثر من حياة فبهذه القصة نعيش حياة البؤس وبهذه نعيش حياة العشق والغرام . فنحن بذلك نحيى بأكثر من حياة ونعيش بأكثر من شعور مما يعطي أفكارنا بعدا عميقا متأصلا في الحياة الإنسانية. فلا بد لنا أن لا نستقل أنفسنا ولا نستصغر طاقاتنا . فقد يظن البعض أن نحت الرخام خير وأبقى ممن خياطة الملابس و بذر الحنطة والشعير . فيتركون العمل والاجتهاد ويركنون إلى الدعة والراحة وما علموا أنهم بعملهم هذا سيتركون آلافا بلا زاد أو كساء وعندها سيموت باذر الحب كما يموت ناحت الرخام فهل نحيا ونحييهم يا ترى.