في الليلة القابلة خرج راشد إلى الشارع ومشى حتى وصل إلى رصيف القصر، كان متردد الخطوات إلى بوابة القصر التي يقف عليها حارسان قويا البنية، لمحه أحد الحارسين وناداه مستفهماً عما يريد فقال له:
أريد أن أتحدث إلى السيد فؤاد من فضلك.
فأجابه الحارس:
السيد فؤاد لا يستقبل أحداً إلا في أيام محددة.
فقال راشد:
لكنني أريده في أمر هام.
في هذا الوقت كان السيد فؤاد يدخل بسيارته الفارهة من بوابة القصر، أوقف سيارته بالداخل وعادَ مترجلاً إلى البوابة ليستطلع الأمر ويرحبَ بـ راشد الذي أمسكه من يده ومشى معه بمحذات السور وأخذ يحدثه عن حاجته لأن يأتي معه إلى بيته كي يطلعه على بعض الأمور حول اختراعاته ومنجزاته وأفكاره التي يحبُ أن يجاذبه الحديثَ حولها.
كان راشد متوجساً حريصاً على ألا يلمح أيُ أحدٍ دخول السيد فؤاد إلى البيت و المعمل - بالتحديد - في تلك الساعة حتى لا يفسد أحدٌ عليه ما ينوي فعله.
في المعمل طلبَ راشد من فؤاد أن يجلسَ على أحد المقاعد وأتى بالجهاز وصار يحدثه عن أن هذا الجهاز سيحدث مفاجأة، وكان يعمل على تشغيله وإمداده بالمحلول بينما هو يتكلم، وطلب من السيد فؤاد أن يسترخي وأقنعه بأن يتعاطى "الحقنة"، وكان فؤاد متردداً في الاستجابة، غير أنه أقنعه بأهمية الأمر ومقدرته العلمية وحرصه على أمن الآخرين وسلامتهم وأنه لا يمكن أن يقدم على أي أمرٍ يمكن أن يعود بالضرر على أحد.
بدأت عملية التفوير داخل الجهاز، وفي لحظات كان جسد راشد متهالكاً متمدداً على المقعد بينما كان فؤاد كـ الذي يتغشاه الصرع في ارتعاش شديد، ثم استرخى وكأنه نائم قبل أن يفتح عينيه ببطء شديد، وينظر إلى جسد راشد طويلاً وسطَ غمرة من الفرح الممتزج بالرهبة والتوتر قبل أن تنفرج عنه ثغره ابتسامةٌ عريضة ماكرة.
قام راشد بجسد فؤاد وفصل قيد يدهِ من الجهاز ثم فكه من يد جثمان راشد المسجّى وأسرع مضطرباً يعيدهُ إلى الحافظة والتقطَ قنينة المحلول وأحكم إغلاقها وأدخلها في ذات الحافظة التي أدارَ مغلقها السّحاب ورفعها إلى كتفه بدقة وسرعة وفتح باب الغرفة الذي كانَ قد أحكمَ قفله ، وخرج من المنزل بتلصص ثم انطلق إلى القصر وكان يحدث نفسه أبانَ ذلك .. كيف سيتعامل مع هذا الوضع الجديد؟ .. الجسد هو جسد السيد فؤاد بينما الروح التي تتملكه هي روح ذلك العالم الفاسد .. راشد.
رحب به الحراس عند المدخل لكنه دخل دون أن ينبس بكلمة، عبرَ الفناء وتجاوزَ البوابة الداخلية بمصراعيها العريضين إلى بهو القصر، حيث كان بعضُ الخدم وكانت زوجة فؤاد تجلس على أريكةٍ مرفهة في أقصى البهو، نظر إليها متماسكاً وانصرف إلى الجهة الأخرى وجلس وهو يحرص على عدم التعجل في أي كلام أو تصرف قد يفضح حقيقة أمره، قامت زوجته لتقتربَ إليه بمشيتها الأروستقراطية وبادرته:
ما بك ؟ .. هل ضايقك كلام الدكتور اليوم ؟
لم يفهم ما كانت ترمي إليه، لكنه آثرَ الصمت وتركها تتكلم.
–
لا تشغل بالك بهذا الأمر .. لن يكون إلا ما قدر الله .. أنت مؤمن .. كنتَ دائماً تعطيني القوة .. ما بك ؟
لم تزل الحيرة تكتنفه ولا يدري ما يقول ..
ذهبت ناحية الهاتف وطلبت رقماً وتحدثت:
دكتور ياسين مساء الخير.. فؤاد مهموم يا دكتور .. منذ أن تركناك اليوم وحاله لا يعجبني.
وأضافت والدموع تطفر من عينيها:
أنا خائفة عليه يا دكتور.
أنصتت قليلاً إلى ما كان يقوله الدكتور ثم أتت بسماعة الهاتف إلى فؤاد .. تناول السماعة وأجاب باقتضاب:
نعم.
قال له الدكتور:
يا سيد فؤاد أنت إنسان مؤمن وتعرف أن الحياة ليست دار بقاء وأن الأعمار بيد الله وأنتَ تعرف أن لكل داءٍ دواء وأن السرطان كغيره من الأمراض يمكن التداوي منه والمؤمن لا يفقد الأمل بالله أبداً.
كانَ يصغي للكلمات وذهولٌ يتسلل إلى أعماقه لتطفرَ الحمرة على وجهه وعينيه وتنتابُ الرعشة أطرافه ولم يزل معتصماً بصمته ،أعطاها سماعة الهاتف لتنهيَ المكالمة مع الدكتور بعيداً عنه بينما غرق هوَ في دهشته
"ما الذي يحدث؟!! .. سرطان ؟!! .. هذا ما لم يخطر لي ولم أحسب حسابه.. !!"
عادت زوجته لتأخذه إلى غرفة الطعام، كانت تطعمه بيدها، كانت جميلة وطيبة، ربما لم يعد بحاجة إلى أي شيء من هذه الدنيا لولا هذا الخبر الذي نزل نزول الصاعقة على قلبه.
راحت تحدثه بهدوء وتبسم، وأمسكت بيده في حنوّ وأخذته إلى غرفة النوم وكانت تساعده على تغيير ملابسه بمنتهى الرقة والحب، ولم يكن هوَ يقاسمها لذة هذه اللحظات التي طالما حلم بها وقتلَ من أجلها واقتنصها عامدا، ففكرة الموت هيَ الأكثرُ حضوراً الآن ولا ينافسها في الاستحواذ على عقله إلا محاولة البحث عن مخرجٍ من هذه الورطة التي أوقع نفسه فيها.
في صباح اليوم التالي لم يكن يهمه أمرٌ غيرَ البحث عن بديلٍ لهذا الجسد الملوث بالمرض.
ذهب به السائق إلى مقر عمله وهناك استقبله الموظفون بالحفاوة المعتادة لديهم والتي فوجئ بها بينما كان يبدي عدم اكتراثه، رغمَ انبهاره بذلك الواقع البالغ الأهمية والمكانة والقيمة للسيد فؤاد.
وفي المساء وقع اختياره على وليد .. جسمه الرياضي المفتول أبعد ما يكون عن الأمراض، فـ فؤاد المدلل المرفه لم يكن يملك المناعة ضد أي مرض وهذا هوَ الخطأ الجسيم الذي لم ينتبه له حينما وقع اختياره عليه.
- يتبع -