ظـلَّ الشيخُ واجماً محلِّقاً بفضاءاتِ الحيرة، ينظرُ إلينا تارةً ويرمي بطرفِه خارجَ الخيمة تاراتٍ أخرى، حتّى أخرَجَـهُ عادل العاني مِنْ شرودِهِ، شادياً لروحِ الحبّ الطاهـر:
سألَ القضاةُ:"تحبُّ" قلتُ نَعمْ
فالحُبُّ دِينٌ , ما بهِ حُـرَمُ
بالحُبِّ أُسجَنُ عاشِقاً وَلِهـاً
والحُبُّ , لا جُرمٌ ولا تُهـمُ
إنْ كانَ سِجني بالهَوى فَأنا
بمُؤبَّدٍ أرضَـى وأعتَصِـمُ 1
وأردفَ د. سلطان الحريري مخاطباً شيخ بني عامـر:
- ما كانَ العشقُ العفيفُ يوماً جُرْماً يستحقّ العقاب! ماكانَ جنونُـهُ إلأّ فاكهـةَ الوفاءِ والإخلاصِ والفناءِ في روح المحبوب .. دعوا قيساً يستعيدُ عمرَه الذي نزفَ على ضفافِ النّوى والفراق، دعوا ليلـى ترتّبُ فصولَ فرحتِهـا كما تحبّ، بعدما حبستموها لسنواتٍ بقلعـةِ الشقـاء، ومنعتموها مِنْ ربيعٍ يغرّدُ على كتفيْـها، بلْ منعْتُمْ الشمسَ مِنْ أن تطرقَ أحلامَها .. دعوا قيساً يتغنّى بوفائهِ لليلاه شعراً وحلمـاً وواقعـاً :
وَجَدْتُ الحبَّ نِيرَاناً تَلَظَّى
قُلوبُ الْعَاشَقِينَ لَهَا وَقودُ
فلو كانت إذا احترقت تفانت
ولكن كلما احترقت تعود
كأهْل النَّار إذْ نضِجَتْ جُلُودٌ
أُعِيدَتْ-لِلشَّقَاءِ- لَهُمْ جُلُودُ 2
دعوهُ يقولُ لها على لسانِ حرفي :
"قد يكون كلامي هذا جنونا، ولكن أليس الجنون بداية التعقل، ولذلك فإنني أدخلك بؤبؤ العين، وأطبق عليك محبتي، وأعيش عشقا مجنونا، لنبدأ معا هجرة مع النبض، ونتحول معا إلى لغة جديدة نسرق حروفها من عالم الخيال ، ونرتدي شمسا تخرس الريح ، ونختار وقت القطاف الذي بذرنا حباته في سهولنا الخصيبة..
وأراني وإياكِ نقف أمام الحاكم بأمر الجنون ، وهيئة الدفاع تغفو قبل دفن المساء ، وننتظر زغاريد المودعين ، بعد النطق بحكم الإدانة !!!! 3"
انتفضَ شيخُ القبيلـة مِنْ مكانـه، غاضباً مزمجراً يُرغي ويُزبِـد :
- تطلبونَ منّي جميعُكمْ أنْ أتحدّى تقاليدَ القبيلة التي ترعرعنا عليْها، أنْ أقومَ بتطليقِ ليلى من زوجها فقطْ إرضاءً لروحِ الحبّ التي تتحدثونَ عنها، أتعلمونَ ماذا يعني ذلك ؟؟ أنْ أبقى ذليلاً أجرّ أذيالَ الخزيِ مدى العمر.
لاأنكـرُ بأنّني تأثّرتُ لما أصابَ قيساً، فقدْ كانَ ينزلُ منّي منزلةً عظيمـة، مقرَّباً محبّباً إلى نفسي لشعره الرقيق وسموّ نفسه، لاأنكرُ بأنّني تأثّرتُ بشعركمْ ونثرِكمْ بالرغمِ مِنْ صراعِ العقل والقلب الذي يعصِفُ بجوانحي.
اللقـاءُ بقومٍ أنقياء أمثالكمْ، قدِموا مِنْ قبيلَةٍ سامقـةِ الهدف والحرف:"رابطة الواحة " كانَ حلمي الأكبر الذي أزهرَ الآن بحلولكمْ بينَ ظُهرانيْنـا، حتّى وإن كانَ طعمُ اللقاءِ مُـرّاً ..لطالَمـا حلمتُ بالتعرف إلى شيخِ قبيلتكمْ وأبنائها، فأنتمْ ممّن يُنزِلونَ الكريمَ منزلَتـه، ويُكرِمونَ الغريب قبلَ القريب، ولايتأخرونَ عن إغاثة الملهوف وتضميدِ جراحِ المعذّبيـن والمقهورين . من كثرةِ ما سمعتُ عنْها وعنكمْ مِنْ ذِكْرٍ طيّب وثناءٍ عطِر من القبائلِ المجاورة والنائية أيضاً، تمنيتُ أنْ يتحقّق حلمي ولكنْ .. ماكنتُ أتوقّعُ أنْ يجلسَ لقاؤنا إلى مائدةِ الخلاف والنزاع..
كيفَ بإمكاني أنْ أعارضَ ما سعيتُ عمري كلّـه لإرساءِ لبناتِه بقبيلتِنـا ؟؟ هلْ تعلمونَ معنى أنْ يُشبِّبَ أحدهمْ بفتاةٍ بالقبيلـة ؟؟ إنه العارُ الذي يلاحقها أبدَ الدّهر !..لاأستطيعُ أنْ أتخِذَ قراراً وحدي، عليّ أنْ أستشيرَ بني قومي أوّلاً، وحتّى تلكَ الساعة أنتمْ ضيوفٌ بمضاربِنا لا أسرى، القبيلـةُ قبيلتُكُمْ، لكمْ ما لنا وعليكمْ ما علينا حتّى يخرجَ القومُ برأيٍ أخيـر ..فاليومَ خمـرٌ وغداً أمـرٌ .
وبينما كانَ شيخُ القبيلـة يتابع حديثـه، سمعنا جلبةً خارجَ الخيمـة فهرعْنا جميعاً لنستطلع الأمر، فوجدْنا قافلـةً أخرى من قوافل واحتنا قدْ وصلتْ، تُقِلُّ كلاًّ من أنس الحجّار و د. محمد حسن السمّان . وأنس ينشدُ شعراً بصوتٍ عالٍ أيقَظَ حتّى اليمامَ الذي كانَ يحرسُ قوافلَنـا :
حمامـةٌ وقفـتْ قربـي أناجيهـا
تشكو لحاضرِها فقـدانَ ماضيهـا
تبكي و تُخبرُ أنَّ الصّحبَ قد أُسِروا
هديلُهـا سَجَـمٌ , و الآهُ تكويهـا
جاءتْ تجرّعُني مِن كأسِ مِحنتِهـا
بَثَّتْ حُروفاً و عانتْ مِن مَعانيهـا
أضرمتُ نيرانَ حربٍ فـي قبيلتِنـا
إلا إله الـورى لا ليـسَ يُطفيهـا
طُبولنا قُرِعتْ و السَّيفُ غادرَ مِـنْ
غمدٍ , و أشعارُنا غَنَّـتْ قوافيهـا
إلى بنـي عامـرٍ هـذي رسالتُنـا
علَّ الحَمامةَ تُنبي القومَ مـا فيهـا
(يا ليلُ هيجتَ أشواقاً أداريهـا )
هذي الحِكايةُ ظلَّ الدّهـرُ يحكيهـا
قيـسٌ حكايتُـه ليلـى بدايتُـهـا
إني رأيتُ بـأنَّ الحـربَ تُنهيهـا
ساداتنا أُسروا يـا ويحَكـم فأنـا
روحي لهم سند و الـروح أفنيهـا
يا قومُ إنْ لمْ تَرَوْا حلاًً لما ارْتكبتْ
أيدي الظلامِ , فنارُ الحربِ تكويهـا
جيشٌ و أولُـهُ يُنْبـي مضارِبَكُـمْ
أنْ آخر الجيشِ في الأوطانِ يحميها
موتوا فما بَقِيتْ في الأرضِ مَظلمةٌ
إلا و جـاءتْ جنـودُ اللهِ تُفنيهـا
قبيلةُ (الواحةِ) الشّماءِ قد غَضِبَـتْ
صلّوا صلاةَ ظَلومٍ قد سهـا فيهـا 4
فتجمهَرَ حولهما وحولنا رجالُ القبيلـة، وعيونُهمْ تضمِرُ لهما ولنا الشّرّ والحنَق، لكنّ شيخ القبيلـةِ أمرَهمْ بالتنحّي عن طريقِ القافلة التي وصلتْ وعنْ طريقِنـا أيضاً، فتنحّوْا جانباً .
وتقدّمَ شيخُ بني عامرٍ إلى القافلة التي وصلتْ، فَحيّـا القادمينَ مبتسماً ومقطّباً في الوقتِ نفسِه، حتّى التبسَ علينا الأمرُ ووقعنا في حيصَ بيصَ، نتساءَلُ عمّا يُضمره لنـا ؟؟؟ وإنْ كانَ قلبُـه قدْ رقّ حقّاً كما أخبرَنـا، وبأنّه سيعملُ على إقناعِ قومه بالعفو عن قيسٍ وليلاه وعنّي ؟؟ هلْ فكّـرَ في الأمر جدّيـاً، فندِمَ على ما اقترفَ في حقّ الأبريـاء وفي حقّ العاطفة الأسمى أمْ أنّه سينفّذُ فينا حكمَ الزمن المـرّ ؟؟
لاأنكرُ بأنّنا جميعاً تفاءَلنا وأمِلْنـا خيراً، ومضينا نحيّي أنسًا الحجّار ود. محمد حسن السمّان، نسألهما عن واحتِنا التي اشتقنا لها ولحدائقِها المطلّـةِ على الأنهار الجاريـة، وزرابي الحرف المنسوجةِ فيها بالمحبّـةِ والنقـاءِ، فأجابنا د. السمان مُطَمْئِنـاً :
- لاتقلقوا أحبّتي، الواحـةُ بخير لكنّها على قدمٍ وساقٍ، لنْ يغمضَ لها جفنٌ حتّى نعودَ جميعاً سالمينَ ومعنا قيسٌ وليلـى إلى هناك، تركنا قافلـةً أخرى تستعدّ للرحيل واللحاقِ بنا، يُعِدّها الأخيـَلُ وآخرون معـه ..
وظلَّ قيسٌ طيلةَ وقوفه بساحةِ القبيلـةِ، يحلّـقُ بنظراتٍ عطشى هنا وهناك، بأشواقٍ تبحثُ مغرورقةَ العينينِ والقلبِ عن حبيبته ليلـى التي لمْ يظهرْ لها أثرٌ مذ دخلنا القبيلـة، لمحتُ دموعاً تتدحرجُ على وجنتيْه كما تدحرجتِ الأحزانُ على وجناتِ قلوبنا. وما إنْ استقرّ نظرُ قيسٍ على خيمةٍ مزركشةٍ بألوانِ الطيف بأقصى مكانٍ بالقبيلـة، حتّى هجمَ عليـه فارسٌ ملثّـمٌ على ناقتِـه، والغضبُ على وجهِه يستشيطُ غيظاً، لمْ يساورْني شكٌّ في أنّ هذا الفارسَ هو نفسُـه الذي لمحناه عند دخولنا الخيمة، وأنّه هو زوج ليلى : ورد بن محمد العُقَيلـي لامحالـة !!
لمْ يُحَرِّكْ قيسٌ ساكنـاً، بلْ أنشـدَ ويداهُ ترتجفانِ شوقاً لليلاه، وقُـربَـه عابـرُ سبيل يهدّئ من روعـه:
البين يؤلمني والشوق يجرحني
والدار نازحة والشمل منشعب
كيف السَّبيلُ إلى ليلى وقد حُجِبَتْ
عَهْدي بها زَمَناً ما دُونَهَا حُجُبُ 5
وأغميَ عليه، فأمـرََ شيخُ القبيلةِ بنقلِه إلى خيمةِ القِرى، وألاّ يقْرَبـه أوْ يقرَبَنـا أحدٌ بسوء حتّى يجتمعَ برجالِه للتشاور في مآلِنـا. وبينَما مضى معهمْ إلى خيمته شارِدَ الذهنِ، يوزّعُ نظراتِه الحيْرى هنا وهنـاك، مضى أحبّتي من فرسانِ واحتنا الحبيبة إلى خيمةِ القِرى حيثُ قيس، كيْ يطمئنّوا على أحواله وصحّته، وكيْ يعتنوا به ويخفّفوا مِنْ آلامـه .
لمْ يكنْ يشغلني ساعتئـذٍ غيرُ أمرٍ واحدٍ، كيفَ السبيلُ إلى لقـاءِ ليلـى، فقدْ آنَ الأوانُ كيْ يورقَ لقـاءُ العاشقَيْــن .
--- يُتبَـعُ بإذن اللـه -----
--------------------------
1- من شعر عادل العاني
2- من شعر قيس بن الملوّح
3- من منثور د. سلطان الحريري
4- من شعر أنس الحجار
5- من شعر قيس بن الملوّح