العسكرة
تتائبت شمس المساء ثم فركت عينيها مستسلمة للنوم، على فراش افق يراقب بدون ملل، بيوت وازقة قريتنا الوديعة الجالسة القرفصاء على حدود الجوار ... ما اجمل منظر نوافدها الصغيرة التي تشبه عيون يابانية ساكنة فــــــــي لفافة صاريها
الذي يعكس فضاء شجرها الاسيوي الحالم السابح للانهاية هذا الكون ...عيون مساكن قريتي تتلألأ وسط ظلمة النسيان و جفاء مغتصبي القرار و المسؤولية الغارقة في برك الماء العكر...
على بساط التلة المطلة في هدوء و سكينة على سطوح الاكواخ والمساكن الصغيرة، وازقتها العائمة فـــــــي صمت الفراغ القاتل ، يجلس عمي المختار يرصد الليالي، و عيناه شاخصتان نحو افق يعكس خيوط دخان متصاعد مـــــن اعماق شرايين خبز حاف، ينتزع انتزاعا من جوف الارض، و مبللا بعرق شيخوخة متحسرة ، على ايام شباب ضاع في انتفاضة ...و قمع ... و سجون القادم من وراء وجودنا ، ومن وراء بحار الغرب المقنع برداء الغيرة على كينونتنا ..حيث
اختلط الدم بالشعر، و الانفة و الصدق في المواقف، لتقوم قيامة قومة الانعتاق و الحرية و الاستقلال، من ماض بغـــيض ترك دروبه المشققة على محيا وجه عمي المختار، الملفوف في جبة عقده السابع .
كان لايبرح مكانه المفضل، فوق رابيته حتى يستسلم في خلسة من امره لاشعال لفافته المفظلة ، و يـــــغــــــرق شرايين رئتيه بنشوة حالم، معلنة عن نهاية يوم انتقص من جدولة حياته،التي لم يعد لها كبير شان في ما قد تجود بـــــه الفرص القادمة .
في بيته المتواضع جدا كشضف لقمة عيشه، تحولق احفاد عمي المختار حوله ككل ليلة بعد تناول وجبة عشاء لا تكاد تسد الرمق. و بما ان البيت يفتقر للكهرباء، التي و عدوا بها و اشياء اخرى، كلما لاحت بوادر الانــتخابات الخاصـة
ببرلمان نوام الامة .و بالتالي لاوجود لتلفاز . تصاعد صراخ الاطفال مطالبين الجد باتمام قصة الامس التي وعدهم بسرد فصلها الاخير، و هي كالعادة حكاياته مع سجون المستعمر، و كيف خطط هو و ثلة من اصحابه للهروب الاول و الــــثاني
الى ان التحق بفرقة المقاومة ، الجاعلة قاعدة تحركاتها بالجبل الحاضن للقرية .
الساعة تشير الى الواحدة صباحا ...افاق اولاد عمي الختار، و نساؤهم و اطفالهم مدعورون يهـــرولــــــــــــون و يرتطمون ببعضهم البعض وسط ظلام دامس ... اوقد عبد العاطي الابن البكر لعمي المختار شمعة ، و اذا بالاطــــفــــال ملتصقون بتلابيب امهاتهم و هم يصرخون و يبكون من شدة الذي اصابهم ....
_ ما هذا ؟؟؟ انحن في حرب ؟؟؟ يقول عمي المختار
_ انها اصوات طائرات حربية ...يقول عبد العاطي ...انه هجوم بالطائرات يا ابي ...لقد بدات الحرب . يجب الصعود
للجبل ... قريتنا المتاخمة لحدود الاشقاء لا تحتمل هذا الضغط ...قد يسقط السقف على رؤوسنا
_ اين سنذهب في هذا الليل.. يقول عمي المختار، وهو الواثق الغير خائف كما يريد ان يوصل لاحفاده الذين طـبــــخ عقولهم بقصص الحرب و الدمار وبطولات المقاومة، التي كانت العمود الفقري في تحرير البلاد و العباد من المغــــتصب ....الصباح رباح ...نعم نحن اناس فقراء لكننا اقوياء ولانخاف من طائرات ورق الجيران .متحدثا لاحفاده ..
بقيت اذان و عيون الجميع حدرة، و مستيقضة كلما عاود الاشقاء استعراض عضلات خفافيشهم المزعـــــــــجــة، و المروعة لسمر قمر شاحب، كوجه شاعر يجتر مرضه بقصائد لا يمكن الا للنسيم وحده لملمة اوراقها الرقيقة كفحفحات صباحات خريف تشتم رائحة كساء ارضه المصفرة الاديم من بعيد..
صلى عمي المختار الفجر، ثم تسلل للسطح عله ياتي بالخبر اليقين، او يفهم شيئا مما يقع على مســـافة بصـــــره المتتاقل بفعل الزمن، و اذا بخطوط الصباح الاولى تفضح في الافق سلسلة مصابيح، تتسلل كانها الجردان في حركة دائبة طلوعا و نزولا ، ودخان طبخ متصاعد ممزوج بقهقهات عارية من ضبح عاديات البلد ... هرج و مرج بسوق عــــــكاض تجار الموت المتسللين الى عقول اهل القرية الفارغة من حديث نرجسية اسيادهم .
_ اجمعوا حقائبكم ...الجيران يغزون زرائبنا و حقولنا و طمانينتنا ، كما سرقوا و يسرقون مواشينا ، و كـــــل مـــا يضعون عليه اليد ..يقول عمي المختار وهو جاد هذه المرة في غفلة من احفاده الذين اسلموا جفون مقلهم للنوم
_ لن نخرج من هنا يا ابي ...الدار دارنا. و الحقول حقولنا. و الزريبة زريبتنا ..يقول عبد العاطي ...
اطلت شمس الصباح من خبائها مزهوة و ضاحكة لمروج ونخل وزرع اخضر اديمه بفعل التساقطات المطــــرية لهذه السنة ، و التي استبشر الجميع بقدومها و بما ستتركه لهم من خير قد يسدد به عمي المختار، ديون الســـــــــنوات العجاف التي قطع الجفاف بسيوفه شرايين مجراها، المتحكم في اكسير الحياة بالقرية ... انها امطار الخير التي لا يتحكم فيها اصحاب القرار والا...انها عطية الله المسافرة الى محطة خريفها الصحراوي في جنوبنا البديع. و منه الى محيــــط السلام قصد جمع محصول تعبها للسنة القادمة ...افاقت شمس الصباح لتفضح و ترفع الستار عن المسرحية المكرورة ذات الفصل الواحد. و ابطالها عساكر قد يسدون عينها ان هي تمادت في الحملقة ... دبابات و جرارات و شـــاحـــــنات وخودات ، و كانك امام خلية نمل مسرعة الخطى . لا تعبأ بحوادث السير في طريق سيار احادي الممرات .
خرجت القبيلة عن بكرةابيها يتقدمهم عمي المختار، الدي ذكره هذا المنظر بفترات ايام شبابه ........ايام مقاومة الاستعمار الفرنسي للديار ...لكن الفصل غير الفصل ...و الزمان غير الزمان ... و المكان غير المكان ..و العـــــدو غير العدو...
_ لمن هذه الجحافل البلهاء الغبية ، التي لن تشبه الا مرسليها ..؟؟؟.سيحاربون من؟؟؟ ضد من هذا الانـــفـــــاق الاحمق ...الا اذا كان متوجها للوجهة الصحيحة التي تفتقر لهذا العتاد الجد متطور ..ا.لتحرير فلسطبن و العراق و مدينتي سبتة ومليلية السليبتين و الجزر الجعفرية و الجزر الاماراتية و مزارع شبعا و مرتفعات الجولان ...هذه هي الـــــــوجهة الواجبة تحريرها من يد الغزاة المتطاولين على ارضنا. لا ان نوجه نيران اسلحتنا ودبلوماسيتنا ضد اخوتنا في الـــــــدم و اللغة و الدين ...يقول عمي المختار غير عابئ بما قد يجر عليه الخطاب الجديد من مشاكل، عليه وعلى اهل القرية اللذين فرهوا في هذه الفصاحة لعمي المختار المنعزل عن محيطه، لايلوي الا على جلب الطعام لافواه منسية في اقاصي البلاد..
تسمر الجميع عند سماع مكبر صوت يطمئن اهل القرية ، و كانه العدو الصهيوني يندر بالوعيد اهلنا الصامدين في فلسطين، ان لاخوف عليهم مما يجري.. يصرخ البوق.. فهو مجرد مسرحية عبثية و لا ترقى الى مدرسة الــــمسخ الواقعي ...كما انه لاخوف عليكم من ممثليها ، فهم مجرد كراكيز، يحركها حقد اعمى، و حب سيطرة مستقرة في ادهان اجلاف خاوية ....
_ انه العبث ...لقد صدق البوق... يقول عمي المختار لابنه ..عجبي على قوم كلما نمت طفرة المحصول، و جادت خزائن الارض على عرب هذا الزمان الرديئ ...انتفخ الرعاة و القوا بتعب ، و مال الشعب في خزائن الغرب، تزلفا و لسا لحداء سيد، اوداجه تسع قربة لبن، ليمرر لهم اسلحة، اكل الدهر عليها و شرب و منتهية الصلاحية. ضحكا على الدقون التى لاتنبت و لاتترك النبت ينبت ...
لقد عادت البسمة لعمي المختار، حين راى الاطفال وهم يمرحون متناسين كابوس ليلتهم، ويركضون بين ازقة القرية ، رافضين منطق السطو على احلامهم، التي لم تعد تهم الحكام الخارجين عن التاريخ و الجغرافية في هـــــــــــذا الوطن......
بــــقـــ عبد الرحيم الحمصي لــــم