من حكايات عمتي
شجرة في داري
حكاية للأطفال
بقلم : نزار ب. الزين
كان يا ما كان ، من قديم الزمان ، و سالف العصر و الأوان ، تاجر حرير و قطنيات و كتان ، إسمه نجوان ، و كان ميسور الحال لا ينقصه و زوجته نورهان ، غير الذرية من بنات أو صبيان .
كان نجوان كلما خلا إلى نفسه ، يسرح في همه ، و كلما شاهد طفلا ، يزفر ألما و حسرة ، و لكن حبه لزوجته نورهان ، كان يمنعه من التفكير بالزواج بأخرى ، و كثيرا ما كانت تحثه على الإقدام على تلك الخطوة إلا أنه كان يرفض بإصرار و شهامة .
و ذات يوم جاءه نبأ حريق شب في دار أحد صغار التجار فقضى عليه و على زوجته ، بينما نجت منه طفلتهما ذات الرابعة من عمرها ، فأعلن نجوان أمام الملأ استعداده لتبنيها ، و نظرا لمركزه المرموق لم يعترض على ذلك أحد ، فتوجه إلى دار القضاء حيث ثبت تبنيه للطفلة شرعا و سماها جِهان .
ثم أضحت جهان محور اهتمام التاجر الكبير نجوان و زوجته نورهان ، اللذان قدما لها كل ماتتمناه طفلة من مأكل و ملبس و جولات سياحية و ترفيهية ، و إذ بلغت السابعة عين لها المربيات و المعلمات يثقفنها و يلقنّها أصول الكتابة و الحساب و حفظ القرآن و الحديث ، فكانت من الذكاء بحيث تستوعب كل ما يقدم إليها من علوم و مهارات ، و عندما بلغت الرابعة عشر ، كانت قد ختمت القرآن الكريم و بدأت تمسك حسابات أبيها بالتبني ، و كذلك كانت تغزل الصوف ، كما تعلمت الحياكة و الخياطة فتخيط الجلابيب و الأثواب ، و كانت تفرح كلما تعلمت مهارة جديدة أو تطلع على علم لم تكن تعرفه من قبل .
و على العموم كانت جهان فتاة سعيدة ، و لكن السعادة لا تدوم ؛ فقد أصيبت أمها بالتبني نورهان بمرض عضال استغرق منها حوالي السنة ، قبل أن تسلم روحها إلى باريها ؛ كانت جهان كل ذلك الوقت تقوم على خدمتها ، و تدير شؤون المنزل ؛ و لكنها فجعت بموتها فبكتها و أصرت على أبيها أن تدفن في ساحة الدار ، ليتسنى لها زيارتها أنّى شاءت ، و قراءة الفاتحة على روحها الطاهرة .
و لكن نجوان ، بدأ يتجه بفكره وجهة أخرى ، لقد أحب جهان في البداية كإبنة ، و لكن حبه تحول إلى عشق و غرام بعد وفاة زوجته نورهان .
و ذات يوم قرر الكشف عن السر الدفين ؛ فأخبرها بأنها ليست من لحمه و دمه و أنها متبناة ، ثم حكى لها قصة الحريق الذي التهم بيت أسرتها و والديها ، و كيف أنها نجت من الحريق بمعجزة ، و كيف هب لتبنيها ، لأن نورهان – رحمها الله – كانت عاقرا .
نزل الخبر على حهان نزول الصاعقة ، و لكنها سرعانما استوعبت بذكائها الأمر ، فترحمت على والديها الحقيقيين ، و استنتجت ألا فارق ، فقد عاشت في كنف أحلى و أحن أبوين بديلين .
و لكن المفاجأة التي عقدت لسانها كانت في اليوم التالي ، عندما استدعاها نجوان ، و حين صارحها بحبه و برغبته أن تكون زوجته !
جادلته كثيرا ، أكدت له أنها تحبه و لا تنكر فضله عليها ، و لكنها لا تشعر نحوه أكثر من حب فتاة لأبيها ، و أن هذا الأمر لا يقبله ناموس أو شرع ؛ و لكنه أصر على موقفه ، فاقترحت عليه أن يستفتي رأي عقلاء القوم .
في اليوم التالي رافقته جهان إلى مقر شهبندر* التجار ، ساله نجوان :
- << شجرة في داري تحق لي أم لجاري ؟ >>
فأجابه شهبندر التجار :
- " بل تحق لك و ليس لجارك "
فالتفت إليها قائلا :
- هل سمعت ؟
حاولت أن تعترض و لكنه أسكتها .
في اليوم التالي ، قالت جهان لمربيها :
- أنا لم اقتنع بجواب شهبندر التجار ، أريد سماع رأي القاضي ، فصحبها إلى القاضي الذي سأله عن حاجته فأجابه :
- << شجرة في داري تحق لي أم لجاري ؟ >>
فأجابه القاضي :
- " بل تحق لك و ليس لجارك "
فالتفت إليها قائلا :
- هل سمعت ؟
حاولت أن تعترض و لكنه أسكتها .
لم تقتنع جهان أبدا بنتيجة استطلاع رأي شهبندر التجار أو القاضي بجلالة قدره ، لأن الطرح لم يكن واضحا ، فهي ليست – بأي حال من الأحوال - شجرة أو تشبه الشجرة ؛ فأخذت تفكر بطريقة تخلصها من هذا الموقف الشائك ، فهي تحبه و تجله و تحترمه كأب ، و لكنها لم تتمكن أبدا من تصوره كزوج ؛ بل ذهبت إلى الإعتقاد بأنه بدأ يخرف .
*****
فكرت أن تهرب من البيت ، و لكن إلى أين ؟
فكرت أن تذهب لوحدها إلى القاضي ، لتشرح له الأمر في غير الصورة التي طرحها نجوان أبوها بالتبني ، فهي صورة مضللة ، و لكنها استبعدت الفكرة لأنها بكل بساطة لا تعرف الطريق إليه .
ثم تفتق ذهنها عن حل ، ربما ينجيها من هذه الورطة .
عندما كرر عليها طلب يدها ، أجابته بالموافقة و لكن على شرط !
فرح نجوان و أجابها " مهما كان شرطك فأنا موافق عليه ، و مهما كانت طلباتك سألبيها حتى لو طلبت لبن العصفور " قالت له :
- مهري سيكون عبارة عن صندوق لجهازي على شكل بقرة من الذهب الخالص ، و شرطي أن أقابل أمهر صائغ في المدينة لأشرح له كيف ستكون تلك البقرة .
فاجأه هذا الشرط ، و تصور لفترة أنها حيلة تعجيزية ، و لكن على من ؟ فهو من الغنى بحيث بإمكانه تلبية هذا الطلب و أضعاف أضعافه ، ضحك في سره و همس لذاته : " يا لها من ساذجة ، أتظن أن هذا الطلب سأعجز عنه ؟ "
و في اليوم التالي ، صحب نجوانُ جهان إلى أشهر صائغ في المدينة ، و بعد أن أفهمه أنه مستعد لدفع الثمن مهما كان باهظا ، تركها معه كما اتفقا و جلس خارج الدكان و قد غمرته السعادة .
بعد مضي أسبوع ، أنجز الصائغ العمل على اكمل وجه ، و تماما كما شرحته جهان ، و قد احتاج نقل البقرة الذهبية إلى شاحنة تجرها أربعة خيول ، و أخيرا تصدرت البقرة الذهبية صدر غرفة جهان .
و مالبث نجوان أن طلب الإستعجال بعقد القران و الزفاف على أن يكونا في ليلة واحدة ، فطلبت منه أن يمهلها أسبوعا آخر ، فلم يمانع .
كانت البقرة الذهبية عبارة عن صندوق يظهر بابه فوق ظهر البقرة الذهبية و يمكن فتحه و لكن لا يمكن غلقه إلا من الداخل ؛ أما عينا البقرة فيمكن تحريكهما من الداخل لرؤية ما في الخارج ، و في منخري أنفها كانت ثمة فتحات مناسبة للتنفس .
في أثناء غياب أبيها بالتبني – و عريسها المزعوم - نجوان ؛ كانت جهان تنقل إلى داخل الصندوق ما أمكنها من التمر و التين المجفف و الزبيب مع قربة ماء ؛ و عندما أتمت استعداداتها في اليوم الثالث ، دخلت إلى باطن البقرة و أغلقت بابها و قفلته من الداخل .
عاد نجوان من عمله محملا بالهدايا الثمينة – كدأبه في الأيام الأخيرة - ليقدمها إلى حبيبة قلبه و عروسه الوشيكة جهان ، ناداها فلم تستجب لندائه ، بحث عنها في جميع أركان بيته الفسيح دون أن يعثر عليها ؛ و منذ صباح اليوم التالي الباكر أخذ يركض - كمن أصابه مس من الجنون - من باب إلى باب سائلا عنها ، و لكن الجميع كانوا ينكرون معرفتهم بأمرها ، ثم جند ثلاثة منادين ليجوبوا شوارع المدينة و أحيائها و ضواحيها معلنين عن جائزة قيمة لمن يعثر عليها أو يعرف عنها أية معلومات ، و لكن دون جدوى .
كان كلما خلا إلى نفسه ، تنهمر دموعه حزنا على فراقها ، أما هي فكانت أثناء غيابه ، تفنح باب البقرة من الداخل و تخرج منها لتقضي حاجتها و تلين عضلاتها ثم تعود مسرعة إلى إلى مكمنها .
كانت كلما شاهدته من مخبئها يبكي كالأطفال ، تبكي لبكائه و ألمه ، و لكنها لم تكن لتقتنع ابدا أن أبيها - حتى لو كان بالتبني - يمكن أن يكون زوجها ؛ فتصبر مصممة على موقفها .
و ذات يوم ، شهدت حركة غير عادية ، فقد قدم عاملان ، حملا البقرة الذهبية بصعوبة ، و وضعاها فوق الشاحنة ذات الخيول الأربعة و عادا بها إلى دكان الصائغ ؛ كان نجوان قد اتفق معه أن يبيعها بأي ثمن ، فلم يعد بحاجة إليها .
*****
تصادف بعد يومين مرور الأمير نور الدين بن الملك سراج الدين في سوق الصاغة فلفتت البقرة الذهبية نظره ، انبهر بها و بصنعتها المتقنة ، فأمر خادمه أن يشتريها مهما كان الثمن ؛ و إن هي إلا ساعات حتى كانت البقرة الذهبية تتصدر غرفة الأمير .
كانت جهان تترصد حركات الأمير و مواقيت خروجه و عودته و مواعيد أكله و شربه ، و من هم الذين يقومون على خدمته و في أية أوقات يقومون بالتنظيف و الترتيب و متى يقدمون له الطعام .
فكانت تتسلل من مكنها في الأوقات المناسبة لتقضي حاجتها و تتناول ما تجده من طعام و شراب و تلين عضلاتها ، ثم تعود إلى مكمنها .
و كان من عادة جواريه أن يضعن فوق طاولة مجاورة لسرير نور الدين ابن الملك سراج الدين ، صَيْنية فضية تحوي على ما لذ و طاب من أنواع الطعام الخفيف من أجبان و ألبان و زبدة و زيتون و بيض ، كل صنف منها في صحن صغير ، إضافة إلى سماور الشاي الأخضر أو الزهورات ، و ذلك قبل أن يصحو الأمير من نومه حوالي الساعة العاشرة من كل صباح ، ثم يخرجن لأن سعادته يحب أن يتناول فطوره لوحده .
كانت جهان تتسلل بعد خروج الجواري ، فتقترب على رؤوس أصابعها من الصينية ، فتتناول من كل صحن لقمة واحدة أو اثنتين ، ثم تعود إلى مكمنها في بطن البقرة الذهبية .
و في أحد الأيام انتبه نور الدين إلى صحون الطعام الناقصة ، و يبدو أن جهان أكلت منها في ذلك اليوم أكثر من المعتاد ، فاستشاط غضبا ، وصرخ مناديا جواريه و لما أن حضرن بين يديه ، استنطقهن عمن تجرأ منهن فتناول من سفرته ؟ فأقسمن أغلظ الأيمان أن أحدا منهن لم يفعلها ، و لكنه ظل على شكه ؛ فأرسل وراء القهرمانة*، ثم أمرها باستبدال طاقم جواريه القائمات على خدمته بأخريات .
و لكن في اليوم التالي و اليوم الذي يليه و الأيام التالية ، تكرر الأمر ، فتوقف عن الظن بجواري القصر و تعريضهن للعقاب ظلماً ، و قالت له أمه حين استشارها : " لعلها جنية تود مداعبته أو إغاظته ؟! " ، ثم أمرت عرافتها بأن تقوم بتبخير الغرفة – كل يوم - قبل نوم الأمير .
و لكن الأمر تكرر أيضا و أيضا ؛ فأشارت عليه والدته أن تتناوب الجواري على السهر في غرفته منذ لحظة نومه و حتى يقظته ، فرفض ذلك لأنه يفضل النوم لوحده .
و بعد طول تفكير و تمحيص و تدبير ، قرر أن يتصدى بنفسه لهذا الموضوع الغريب ، فأمر بإحضار قالب من الجليد ، علقه مباشرة فوق رأسه ، فكان كلما غفت عيناه تنقط بعض القطرات فوق رأسه أو جبينه فتصحيه .
بعد أن أحضرت الجواري سفرة فطوره كالعادة ، و بعد انصرافهن ، فتحت جهان غطاء البقرة الذهبية و تسللت من فوقها ، و ما أن وطئت قدماها الأرض حتى أمسك بها الأمير نور الدين و هو يقول بصوت بقدر ما فيه من شجاعة فيه من خوف :
- أنسية أنت أم جنية ؟! أجيبي فورا و إلا قطعت رأسك في الحال .
أجابته و هي ترتعش رعبا :
- و الله يا سيدي أنا أنسية ، إبنة أسنية و أنسي
سألها غاضبا :
- و كيف تسللت إلى مخدعي ، و هل بلغت الجرأة باللصوص أن يدخلوا مخادع أولاد الملوك ؟
و إذ رآها و قد شل الرعب كيانها و كادت ترتمي على الأرض مغشيا عليها ، هدأت غضبته ؛ و لكن حين تأملها و رآها وقد غادرت بالكاد مرحلة طفولتها ، فاكتملت حسنا و جمالا ؛ أشفق عليها ، و بلل وجهها بالماء ، ثم أجلسها إلى قربه ، ليقول لها بنبرة حانية :
- إحكي لي حكايتك و سأعفو عنك إذا كانت مقنعة .
و ما أن تمكنت من التقاط أنفاسها ، حتى بدأت تسرد له حكايتها ، فأكبر نور الدين من موقفها و حياها عليه ، و استهجن تصرف نجوان أبيها بالتبني و سعيه للزواج منها بعد وفاة أمها بالتبني ؛ فأمر باستدعائه ، فأخذت جهان تقبل يديه راجية ألا يؤذيه ، فمهما يكن من غلطه فهو الذي رباها و علمها و نشأها أفضل تنشئة ، و أضافت أنها تظن بأن تصرفه ربما كان بسبب خرف الشيخوخة .
*****
عندما حضر نجوان مخفورا بين يدي الأمير نور الدين ، كان في حالة يرثى لها شاحب الوجه مهلهل الثياب و قد شله الرعب .
سأله الأمير :
- علمت أنك تبحث عن ربيبتك !
أجابه و هو يرتعش :
- لقد فرت من داري أو اختطفها جني ، لقد انشقت الأرض و ابتعلعتها يا سمو الأمير ثم أخذ يبكي .
سأله نور الدين :
و كيف سولت لك نفسك أن تطلبها للزواج و هي بحكم ابنتك ؟
أجابه :
- شجرة في داري تحق لي أم لجاري ؟
قال له الأمير :
- جهان إنسانة من لحم و دم أيها الأخرق ، و ليست شجرة !
فوجئ نجوان عندما ذكر له الأمير اسمها ، فركع على قدميه و أمسك أطراف ثوبه و أخذ يتوسل إليه و قد تبللت لحيته بالدموع :
- أنت نطقت باسمها يا سمو الأمير ، إذاً أنت تعلم أين هي !
أنهضه الأمير ، ثم قال له :
- إسمع يارجل ، جهان ابنتك و ليست أكثر من ابنتك ، فإن ارتضيت بحكمي ستعود إليك كإبنة ، و سأقوم بزيارتك غدا مع والدتي في دارك ، لأطلبها منك زوجة لي .
فأجابه فرحا :
أمرك مطاع سيدي الأمير ،جهان ابنتي و ليست أكثر من ابنتي ، و على هذا أعاهدك .
هنا خرجت جهان من وراء الستار ، و هرعت نحو أبيها بالتبني فقبلت يديه و هي تطلب منه السماح .
*****
و خرج المنادون يقرعون طبولهم ، و يجوبون أحياء المدينة و أوزقتها ، و هم يعلنون دعوة الجميع إلى قصر الملك : " سبعة أيام بلياليها ، لا أحد يأكل أو يشرب إلا في قصر جلالة الملك سراج الدين ، مشاركة بفرح إبنه و ولي عهده نور الدين من جهان ، إبنة التاجر الكبير نجوان "
" و توتة توتة ، خلصت الحدوتة "
----------------------------------------
* القهرمانة : رئيسة الجواري
* شهبندر التجار : كبير التجار و رئيسهم
----------------------------------------
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
البريد :
nizarzain@adelphia.net
الموقع :
www.FreeArabi,com