أغمضتُ عينيّ، وأنـا أُمسِكُ بزهرةِ بنفسـجٍ خبّأتُهـا بين صفحاتِ دفتر مذكراتي، كانتْ تلفظ بينَ يديّ أنفاسَهـا الأخيرة بعدَ أنْ ذوَى آخرُ أملٍ لهـا في الحلـم، ولكنّني أبيتُ أنْ تستسلمَ لإغفاءةِ صبرِها وأنا أرتقبُ إطلالـةَ فرجٍ قريبٍ. كان الأملُ بداخلي يكبرُ ويكبـرُ يدعوني لأتفيّـأَ ظلالـَه، خصوصاً وعطرُ الزهرةِ مايزالُ يداعب أنفاسي وأنفاسَهـا !
وخرجت الشمس أخيراً من مخدعها، لكنّها لمْ تقدّم لي غير نظراتٍ تعبَقُ بالدهشـة، لأنها كانت تعرف مثلي أنّ ساعةَ النطق بالحُكْم قدْ رتّبَـتْ مواعيدَها المبعثرة حسبَ عقاربِ القسوة.
ووجدتُ أهلَ واحتي جالسينَ إلى قيسٍ قربَ البئرِ التي تتوسّط القبيلـة، تتراقصُ على أفنان قلوبهمْ كلُّ الفصول، ينتظرونَ مثلي حياةً أوْ .. موْتـاً ! فأيقنتُ أنّ الرقادَ ينعي نفسَه لأنّنا جميعاً طردْنـاهُ من مضاربنا.
وخرجَ شيخُ القبيلـة ورجالُـهُ من الخيمةِ التي اعتكفوا فيها ليجلدوا الأحلامَ المشروعة، لينكّلوا بالآمالِ التي لمْ تبلغ أشدَّها بعدُ. خرجوا والقسوةُ تتصبّبُ مِنْ جباههمْ، والفرحةُ تهربُ من بين أيديهمْ خائفةً.
ودنـا منّي زعيمُ القبيلـةِ، وهو يحدّق فيّ بعينيْـه المثقلتيْتن بالصمت، ثمّ أردف :
- حاولتُ ولكنْ أُسقِط في يدي! فَرُغمَ أنّني شيخُ القبيلة إلاّ أنّني لم أستطعْ تجاهلَ تقاليدِ القبيلـة. كانتْ كلمتُمْ أقوى من كلمتي، وصوتُ عقولهمْ أقوى من صوتِ قلبي الذي بدأ يتقلّبُ في ظلّ الإحساس، صارَ يُميّـزُ بين القسوة والرحمة ويحنو على قلوبٍ لمْ تحمل بين جنبيْها إلاّ حبّا نقيّـاً عفيفاً. لقدْ غيّرتُموني مذْ أقبَلْتُمْ وحللتمْ بينَ ظهرانينا، ولكنْ ! أخفقتُ في إقناعهمْ، فقلوبهمْ لاتسمعُ إلاّ لصوتٍ واحدٍ، لصوتِ الأعراف وحسبُ . (وأطرَقَ صامتاً )
أحسستُ بالأرضِ تدورُ مِنْ حولي، وكأنها هي الأخرى تعلنُ عن غضبِها وتثورُ على قسوتِهمْ. ظللتُ أتفرّسُ في وجه الشمس التي أجهشتْ في بكاءٍ طويل، واستسلمتْ للغيوم التي هاجمتْها على حين غرّة كيْ تغتالَ نورَها.
سألتُـه :
- تقصدُ أنّ الموتَ ....؟ (واحتبست الحروفُ في حلقي )
- لقد حكمـوا على قيسٍ بالموت وكذلكَ أنتِ. ماكانَ عليكِ أنْ تجهري بحبّكِ شعراً ونثراً، ماكانَ عليكِ أنْ تُعَرّضي حياتَكِ لسهامِ مَنْ قستْ قلوبُهـمْ، ماكان عليكِ تحدّي تقاليد القبيلـة. لِمَ عدتِ وأنتِ تعلمينَ أنّ الموتَ أحدُ القدَرَين إن لمْ يكن القدَرَ الوحيد ؟؟!
- لستُ نادمـةً البتّـة، كان لابدّ مِنْ إعادةِ إكليلِ الورد للزمن الجميل، مِنَ الاحتفاء بأزمنةِ الفرح رُغم أنف الأحزان المحلّقـة هنا وهناك. لاأخجلُ من مشاعر نقيـة عفيفة وإنْ أنكَرْتمُوها، ولن أتوقّف عن البوحِ شعراً ونثراً، وكلذك قيس وليلـى وإنْ أزهقتُمْ فينا الحلـم.
- هراء ! أنتِ وقيسٌ ستجمعان حقائبَ الرحيـل الأبدي، أمّا ليلـى فستظلّ زوجةً لوردٍ بن محمد، ولكنّهم حكموا عليها بالسجن بخيمتها مدى الحياة، لاتغادرها ولاتغادرُ جدرانها أبداً حتى تذوي روحُها حسرةً وكمداً، هذا هوعقابُها .
- ستمنعونَ عنها نورَ الشمس ؟ ستمنعونَ عنها دفءَ الحياة وعطرَ المكان ؟ ستمنعونَ عنها مصافحة النسماتِ صباحاً ومساءً ؟ أنْ تبوحَ للقمر حينَ يطلّ في موعده المعتاد، ليقابلَها ويهدّئ مِنْ روْعِها؟؟ ستمنعونها من ضوءِ النجماتِ الذي يسقي أرضَ روحِها بجرعاتِ الأمـل؟؟ ستمنعونها مِن أمـلٍ طليـقٍ يحلٌّق بين غيمةٍ وحلـم ؟؟ تظنون بأنّ ذلكَ سيقتلُ حبَّ قيسٍ بقلبِهـا ؟؟! أمْ أنكمْ تريدونَ معاقبتَها على قلبٍ اعتنقَ الخفقانَ فأبيتُمْ إلاّ أنْ تنتقموا منـه ومنهـا ؟؟ !
وغرقتُ في بكاءٍ طويل على صديقتي ورفيقة عمري، كنتُ أتمنى من كل قلبي أنْ يحتفلَ قلبُها أخيراً بأعيادِ الفرح، ولكنْ هيهـات ! خلَتْ قلوبُ القبيلـة من الرحمـة، صارتْ عصيّـةً كأزمنةِ الحلـم الجميل التي ننتظرهـا على أحرّ من الشوق. وماأدركتُ بعدُ بأنّ قلوبهم وجوهٌ أخرى للزمن المرّ، الزمنِ الذي تعيشُ تحتَ أنقاضـهِ أحلامُنـا التي شاختْ قبلَنـا ألماً وخيبـة ! الزمن الذي أريقَتْ على ضفافه الأحلامُ والأمنُ والأمان في مشارق الأرض ومغاربها !
نظرتُ إلى أهلِ واحتي وقدْ راعهُمْ ماسمعوه من شيخ القبيلـة، ظلّ الصمتُ يقفزُ من وجهٍ لآخرَ حتّى أصابَـهُ سهمُ الوجع فخرّ صريعاً .
كنّا جميعاً نتابعُ إعدادَهمْ لحفل رحيلِي وقيسٍ، وقد وضعوا القيودَ في يديّ ويديْـه، ووضعوا حارساً بباب خيمة ليلـى، وقدْ دقّتْ طبولُ أولِ عيدٍ من أعيادِ وجعِهـا.
تحلّـقَ القومُ كلّهم حولنـا، وكأنهمْ يستعدّونَ للتفرّس بوجـه الموت وهو يحتّلُ تقاسيمَنا، أنفاسَنـا وأحلامَنـا الغضّـة. ولمحتُ بينَهمْ والدي واقفاً والدموعُ مغرورقةٌ بعينيْـه، يبعثُ إليّ صنوفاً من الحنان والمحبّة على طبقِ الوداع.
أطرقتُ كيْ لايفضحني شوقي إليه وخوفي عليه، كي لاتفضحني سنينُ الغربـةِ وهي تتدفّقُ قطْراً مالحـاً على وجنتيّ . هي ضريبـةُ الحبّ الصادق، التاريخُ يقول ذلـك! بل هي ضريبـةُ كلّ شيءٍ جميلٍ وكلّ قيمةٍ إنسانيةٍ نبيلـة في حياتنـا!
نظرَ إليّ قيسٌ وبسمةٌ واثقـةٌ تختالُ بينَ جفنيـه، بسمـةٌ قطفَها من قلبِه الذي أعلنَ الحبّ لليلـى حيّا أوْ ميتاً، بسمة نبتتْ في حديقـةِ الوجـع وأبتْ أن ترعوي ثقـةً في اللـه ورحمتـه، وثقةً في حبّ نقيّ مازالَ متدفٌّقـاً كالأمـل، يحرسُ شواطئَ الحلـم مِنْ قاتليـه، يحرسها بالحرفِ والأمل في اللـهِ ثمّ بالزمن الجميل وأهلِ واحتنـا.
وظلّ قيسٌ يربّتُ على دهشتِي ودهشتِه بشعره منشداً :
رضيتُ بقتلي في هواهـا لأنّي
أرى حبَّها حتْماً وطاعتَها فرْضا
إذا ذُكِرَتْ ليلى أهيمُ بذكرِها
وكانتْ مني نفسي وكنتُ لها أرضى
وإن رمتُ صبراً أو سلواً بغيرها
رأيتُ جميعَ الناس من دونها بعضا 1
أحسستُ مثلَـهُ ومثلَ أهلِ واحتي بأنّ ليلـى- وهي قابعةٌ بخيمتها المظلمة- ترشفُ حروفَه رشفاً، وتجمعها أيضاً في عِقدٍ روحي لتعلّقَه بجيدها. أحسسنا بأنّ الشمسَ الحانيةَ تبعثُ إليها بحروفِ ملهمِها على أجنحة النسمات. وكلّما أنشدَ قيسٌ شعراً، كلّما حلّقـتْ روحُ ليلـى بيننا لتشدّ من عضدِها وعضدِنـا:
ما بال قلبك يا مجنون قد هلعا
في حبِّ من لا تَرى في نَيْلِهِ طَمَعَا
الحبُّ والودُّ نِيطا بالفؤادِ لها
فأصبحَا في فؤادِي ثابِتَيْنِ مَعا
طُوبَى لمن أنتِ في الدنيا قرينتُه
لقد نفى الله عنه الهم والجزعا
بل ما قرأت كتاباً منك يبلغني
إلاَّ ترقرقَ ماءُ العَيْن أو دمعَا
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني
حتى إذا قلت هذا صادق نزعا
لا أستطيع نزوعاً عن مودتها
أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا
كَمْ من دَنِيٍّ لها قد كنتُ أتبَعُهُ
ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا
وزادني كَلَفاً في الحبِّ أن مُنِعَتْ
أحبُّ شيءٍ إلى الإِنسان ما مُنِعا
إِقْرَ السلامَ على لِيْلَى وحقَّ لها
مني التحية إن الموت قد نزعا
أمات أم هو حي في البلاد فقد
قلَّ العّزَاءُ وأبدَى القلبُ ما جَزِعا 2
واجتاحني في غمْرة ذلكَ كلِّـه شعورٌ غريبٌ ضمّخ زوايا روحي، أحسستُ بأنّ الغيثَ الذي خاصمَ أرضَ القبيلـةِ منذ زمنٍ فهَجَرها مُغاضِبـاً، قد عفـا عنها وعنّـا. أحسستُ بأنّه قريـبٌ منّا، يختبئُ خلفَ نخلةٍ أو خلفَ نبتـةِ اصطبار ! بأنّه يرتّبُ قطرَهُ قبل أن يلقانـا..
يُتبَـع بإذن اللـه ..........
----------------
1-2- من شعر قيـس بن الملـوّح