لوحة نقدية في / لأنك أمي /
سها جلال جودت
وجعلت قماط ولادتي يحتويني فاحتوته جدتي، وحين قابلت وجه الصباح في تناغمات الكلام ضحك أولاد عمي من أبي، وصدحت ضحكاتهم الرنانة على حركات الطفلة الوديعة يوم حاولت الرقص.
حينها تداعت أمام فرحي نقطة هامة افتقدتها، ظلت كامنة خلف أبواب الروح، فمنطق الطفلة لم يكتمل نضوجه بعد! ولأن الاكتمال أحد بنود الكمال فما زالت هذه المرآة العاكسة لكل أحلامي وآمالي وأفكاري ومنطلق أمنياتي متأرجحة ما بين النهوض والقعود.
اختفت وضاءة الحنان بين حب الامتلاك في زود الجدة حين احتضنت حفيدتها وبين تنازل الأم في ضعف أمام سلطة من يمتلك القوة.
ولأن وجهك يغيب وراء هرم الأمومة حين اختطفني الزمن الماضي يوم ابتدأت أكبر وأحدق في الأشياء المحيطة بي بتأمل لم يشعر به أحد غيري، وفي توأمة المشاعر عن الذي غاص في أعماقنا كجرح عميق كتبت الشاعرة نزيهة الجديد من تونس إليّ في قصيدتها / إلى أمي /
أشعر بالبرد يا أمي
يخترق الظلمات
كما أفردت باباً من الأبواب الأربعة من مجموع قصائدها في ديوان / الرسم بمحار البحر/ أسمته الرسم بدمع أمي لتقول في قصيدتها ولادة:
من ولدتني غابت وتركتني
وجهي للحائط الصلد
وقلبي في رقعة الدم
ولا لون يرقص حول الشمعة
حين أوقدوا في مقلتيها الفتيلة.
لأقرأ في نبض روحي الحساس عودة وجهك الغائب الحاضر الآن يوم أقصيتني عنك وتركتني في حضن جدتي أرتع من حنان الأم بلا رضاعة!
ظل الحاجز ما بين فينة وأخرى يُغلق برتاج من أسكرني حبها ركضي الطفولي نحو حضنك.
لأنك أمي أتوق، أتوق إلى رتق جراح شمس الولادة حين تلف ضفائري جدتي كي تدخلني في طقس الغياب عنك ومنك.
لأنك أمي أعزف لحناً بلا كلمات وأغني من حروف حبي بمشاعري النازفة أن يعود الزمن بك وبطفلتك الرضيعة لتحضني قلبي البارد علّه يحظى ببعض من دفء يتوق إلى وجوده.
لأنك أمي أحسك في أوردة أمومتي، ولأنك عزفي أراك في سيمفونية حزني وأرقي وسهدي ووسائد دمعي.
جسدي الناغل في بحر من الاغتراب عن صدرك يمزق كل كوامني السابحة في سكوت صوتك الهادئ في بعض أحيان والصادح في أحايين أخرى.
أتدرين يا أمي ما يسكن عالم الطفولة ، ذلك العالم الذي ما يزال في سره بعض من كوامن لم يكتشفها العلماء بعد!
داخل ذلك العالم البريء الطاهر يوجد ما أطلقت عليه في كتابي الأدباء يكتبون طفولتهم/ الرفض الباطني والتعلق الظاهري/ ظاهرياً كنت وما زلت متعلقة بذلك الخيط الآسر يوم أرضعتني من حنانه جدتي كل كلمات الشغف والحب في حضوري وغيابيز
وداخلياً ويوم دخلت عالم الموجودات من العلائق الاجتماعية راعني أن يظهر فتق في منغلق صدري يحاسبني لأحاسبك بلا وعي من إرادتي لأنني أصبحت ملكاً شرعياً لذلك المشرع الاجتماعي من قوننة سيطرة الجدة يوم احتوتني.
هاجر يا أم العرب، يامن جابت في جريها كل الصحارى والجبال، هاجر يامن جاء اسمها في مقدمة ديوان طقوس لزمزم حين تناغمت مشاعر الشاعر علي محمد الشريف مع أنداء ذكراها العطرة حيث قال:
لها روحي
تجيء النبوة في سوسن الضوء
وحين نتابع القراءة نجده يواصل زرعه الشجي :
لهاجر قلبي
توشوش فيه الأغاني سكون العشية
وحين يرقص الدمع في المقلتين يأتي مقطعه متناغماً مع جراح قلبي:
لهاجر وجهي المعبد بالدمع
لون العقيق المبعثر
صمت البلاد القصية
حزن التلال
فمن يشتهيها؟! وقد أسلمت للقيود
شموخ السبية
عنقاً نحيلاً
أصابع يسكنها الارتعاش
وأصابعي أقرسها البرد الذي تغلغل في كل أنحاء جسدي لأشعر بالبرد يغطيني.
وحين أصرخ في وجه الحنان المهاجر الهاجر نحو ألوان طيفه التي بقيت متعلقة به لأن صدرك احتواه قبل احتواء جدتي ترتد أصداء الصمت نحو وجهي لأتحول إلى مذياع يبث خبره الساخن على كل أمهات العالم / لا تتركوا أطفالكن في أحضان غيركن/ من أجل النقاء في هذه الحياة ومن أجل أن لا ينأى الطفل عن حضن أمه أجدد كل يوم من صدى صرختي فالأمومة كلمة مخملية ابتدأتها أم الأحياء في ولادة هابيل وقابيل.