مرايا الشمس
شعر: نازك الملائكة
نامي على أهداب عيني يا خريطتها
ورِفِّي في دمائي
إني نذرتُ لكي أُكَسِّر قيدَها زمني
نزيف دمي غنائي
آفاقها سأخطها بالورد،
أغرس عند (بيت المقدس) الدامي قَرَنْفُلَةً كبيرة
وأُحيلها في عرض بحر من زهور الماء والدِّفْلَى جزيرة
وأشك عند حدود (عكا) زنبقة
حرّى الغلالة، مغدقة
و(اللدّ) أنفحها برفة وردة جوريّة
حمراء غذَّتها دماء شهيدة عربية
و(جنين) أعطيها شقائق غضة شفقية
ولـ (غزة) أَخْتار سوسنة نضيرة
و(لكفر قاسم) ألف ليلكة أبعثرها وأجدلها ضفيرة
وعلى مشارف أرض (بيسانٍ) سأزرع ياسمينة
وبنفسجات عند (حيفا) عند (يافا)
عند (نابلس) الطعينة
ولدى مدينة (طولكرم) نرجسة
أضحى بها ذكرى أضاحٍ كالمرايا مشمسة
أهداب عيني يا خريطتها، هنا، نامي عليها
إنني ما بين بيّاراتها الثكلى سجينة
أمطرتها وردًا، وعاشت خلف أسوار انفعالاتي
مدائنها الجميلات الحزينة
حتى زرعت فؤاديَ الخابي الشموع
على خريطتها مدينة
لا لا، دعي الأزهار يا كفي، خريطتها سأنقطها بدمعي
سأخط بالعبرات كل حدود (ناصرتي)
وبالشهقات أبني (بئر سبعي)
سأحيط أسوار (الجليل) بخضرة ريَّانة
تنثال من ألمي ورفضي
وسأمنح (اللطرون) عصف رياح أحزاني، أسيِّجها بنبضي
والطفلة السمراء (رام الله) أُرْقُدها على مهدٍ
يرطِّب حرَّه ثلج الدموع
والحزن حول غطائه الوردي أشرعةٌ
مواويلٌ،
شموع
وسأزرع القلب الكئيب شجيرة،
قمراً يُضوِّي في دُجاه كل أرضي
من الشمال إلى الجنوب قُرى مغَمَّسة بدمعي
وورود أحزاني تعشش في مدائنها
تعطِّر كل زاوية وضلع
وبأدمعي حددتُ أرصفة الشوارع في (الخليل)
ورشفت من حزني جراراً من عبير
وارتويتُ من العويلْ
لا لا ، برئتُ من الحدود الدامعة
وجزعت أن ترنو إليّ خريطتي من هذه المدن الحَزَانَى
إني سأشعل في رباها ثورة
غضباً
دخاناً
وَلَدَى القُرَى السود العيون الضارعة
سأقيم من وهج القنابل مهرجانًا
ويضوع عطر الموت، يسكر من تموُّجِه عِدانا
لا ورديَ البضَ الملون سوف يشفي وخزة الذكرى
ولا عبراتي الحرَّى الغزارْ
لا بل أسوِّر بالخناجر والمُدَى تلك الديار
وأُنيمها في غابة مسنونة الأشجار
تجرح بالسكاكين الحداد اللاسعة
بالعنف تنتزع المروج الضائعة
سأطير، أغرس خنجراً في باب (عكا)
وأقيم حول (القدس) أرصفة الصواعق
أزرع الأسوار شوكا
وأدك (تل أبيب) دكّا
سأحيط (غزة) بالقذائف، سوف أبذر
حول (يافا) حقل ألغام ونارْ
في الليل أشعله حرائق جُلَّنارْ
وسأفرش المدن الوديعة بالصواريخ المحبة والمدافع
الله أكبر يا عرائسُ!
يا قناطرُ!
يا شوارعْ
إني سأبذر فيكِ أسلحتي وأنتظر الحصادْ
وسأوقظ الرَّبَوَات فيك على براكين التحدِّي والعنادْ
قسماً وأرفض أن أبلِّل أغنياتي بالمدامع
***
ووضعتُ بين يديَّ خارطتي، رأيت رُبَى مدائنها خواء
مخذولة الطُّرقات، يذرع صمتها اللاشيء يسكنها الهواء
ليلاتها عدمٌ، ظهيرتها ذبولْ
يمتصني، يقصي خطايَ، ودون بياراتها الظمأى يحولْ
ويحيل خارطتي نُثَاراً من طلول
أحجارها لا نبض فيها، لا عروق، ولا دماء
حتى لهيبي يستحيل إلى انطفاءْ
وحرثتُ صخراً، لم أجد في الصخر زنبقة انتصاري
وجبين فجري ضاع مني، والضباب دنا وأسدل ستره
غَطَّي نهاري
ومضغت أشواك اندحاري
ساحاتها دوني ملفعَّة، يَعِزّ إلى مشارفها الوصولْ
كيف الوصول؟
والليل يفصلنا وتجرفنا السيول
تتساقط الأحلام ميتة، وتنكسر الحلول
وتخونني الأيام
تسقط من خلال أصابعي حتى الفصول
كيف الوصول؟
وتحت ظلال عينيه يصير سواد أمسيتي ظهيرة
وشعرتُ أني قد بعدتُ، بعدت واحتجب اللقاءْ
يبستْ عناقيد الرجاءْ
وتمددت بيني وبين تلالها مُدُنُ البكاء
وعرفت سر البعد، سرّ التيه، إني قد نسيت
أن أنقش اسم الله فوق صخورها
وحرمتها من ضوئه، من دفئه
عذراً لعطر ترابها، وورودها، ونهورها
أفرغتها من سرّ قوتها، رضيت
لربوعها الفقر الحزينَ، منحتها الجدب المميتْ
كلا سأرجع للخريطة،
أنثر القرآن أجنحة على كل المزارع
حتى أرى اسم الله محفوراً على شجراتها
مستودعاً في قلب تعريشاتها
متألقاً في ذبذبات حنين أغنيَّاتها
حتى أرى اسم الله أنداءً وخضرة
وشذى ووفْرَة
في كل بياراتها
***
إني سأكسر قيد خارطتي بأسلحتي جميعاً
وردي،
ودمعي،
والسكاكين الحداد،
وذكر ربِّي
ستشق لي ومضاتها درباً سريعاً
حتى أراني في فلسطيني:
نجوم ملء دربي
وشموعُ ميلاد، وصحو، خلف هُدْبي
أمشي أحرر باسم ربي، بالسلاحْ
بالورد، بالدمع المضيء، مدائنَ الدم والجراح
حتى تتاح لنا، لشتات أهليها معانقة الصباحْ
وتعود خارطتي الحبيبة
ملك قلبي
تحت هُدْبي
لا يجوبُ سفوحَها غيري أنا،
غير الأغاني، والعروبة، والرياحْ
وأحسّ خارطتي ترفرف كوكباً، في لا نهايات المدى النائي
ويَنْبُتُ لي جناحْ