شوائب عالقة
مد يده يلتقط حفنة "الدولارات "، وضعها بين أصابعه ، أخذ في عدها بإحتراف ، دسها في جيب قميصه ، هز رأسه ، ربت على جيبه المحشو بالنقود ، جذب نفساً من بئر النفس الغائرة داخله :
- تمام سيدي... المبلغ مضبوط.
- كلما أمددتنا بمعلومات هامة زدناك .
- لا تقلق أنا لا أترك "دبيب النملة "إلا وأخبرتك به .
- حسناً ... نريد منك معلومات دقيقة عن تحركات "أبي كفاح ".
- قائد المجاهدين ؟!
- نعم .قائد الإرهابيين.
- لكنه يتحرك بتخف ، وفي كل يوم يغير من مكان تواجده.
- اجتهد أكثر ؛ ندفع أكثر.
- حسناً ... لكني أحتاج لمبالغ كبيرة لشراء المقربين منه.
- لك كل ما تريد .. المهم أن تحدد لنا مكانه بأسرع وقت .
ألقى إليه بحفنة من الأوراق الخضراء ..اثنتين ..افترش المكتب بثلاث حفنات ، إنكفأ عليها بنهمه ، لملمها ، ثم ضمها إلى صدره ، انسكبت السعادة الطامعة من وجهه ، تحرك صوب الباب للإنصراف :
- ثاقب.. ؟؟
- سيدي ؟!
-اجتهد أكثر ؛ ندفع أكثر .
- لن يمر اليوم إلا وعندك معلومات عن مكان "أبي كفاح".
وسط الشوارع العائمة على بركان النار ، يتشمم رائحة الصمت وسط الأنفاس اللاهثـة ، يقترب من حلقـات البشر الملتفـة بالحديث،من النوافذ وأبواب البيوت المغلقة،انفجـرآذان المغرب من المسجد الشرقي يصفع حواسه المنتشرة ، صنع الشيخ "نبيل "إمام المسجد بصوته الجهورسدادات ووضعها بأذنية ،حجبت عنه ما يراه من أفواه متحركة، حاول الهروب ناحيته عله ينزعها عنه ، خلع حذائه كبير الحجم ،زرع أهدابه بالداخل بين الخاشعين ، سلم وجهه يميناً فيساراً ، وعـاد يصافـح من بجواره ، أخذ يتمتم بالخواتيم ، نقر الأرض بما تبقى من ركعات ،صعد الشيخ "نبيل "المنبر ،كلماته عن الجهاد تخترق الصدور :لن نترك الحرب ، سنجاهد إلى أخر رمق من دمائنا ،لابد وأن نخرجهم من ارضنا ، من بيوتنا...من أنفسنا ، من يموت منا فهو شهيد ، ومن يموت منهم فهو في النار ، خرج المصلون يكبرون بما تمتلكه حناجرهم : الله أكبر ..الله أكبر ، انسل من بينهم كي يرقبهم من بعيد ، تفحصهم واحداً ..واحد ، "أبو كفاح "ليس بينهم ، من الممكن أن يكون هو هذا الملثم ؟، لا..غير ممكن إنه صبي صغير ،ربما صلى بمسجد آخر ، نعم هو بمسجد آخر ، سأذهب إلى "حسين "الحلاق ربما رأه اليوم فمحله بجوار منزله القديم ..كبر معهم:الله أكبر ..الله أكبر ، شق كتلتهم الحامية، غاب عنهم بتكبيراته قاصداً "حسين "الحلاق ، توقف قبل أن يصل إليه ، أخرج كومة من "الدولارات"، سلخ منها حفنة صغيرة ،واستقل بها جيباً آخر :
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام يا "ثاقب ".
- كيف حالك ؟
- الحمد لله .
- شعر أم ذقن ؟
- إن أردت..فذقن .
- أين كنت الآن ؟
- بالمسجد الشرقي.. أصلي المغرب .
- سمعت بتظاهر كبير هناك .
- نعم .بعد خطبة الشيخ "نبيل "الحماسية.
- الشيخ "نبيل "رجل مجاهد محب لبلده.
- نعم مثل "أبي كفاح "، ألا توجد أخبار عنه.
- لم أره منذ سنة تقريباً .
- ألم تره اليوم ؟
- قلت لك لم أره منذ سنة.
أخرج حفنة النقود من جيبه ، لوح بها مداعباً بها الهواء يميناً فيساراً :
- بكم تحلق الذقن ؟
- بنصف دينار .
- متأكد أنك لم تسمع أية أخبار قريبة عن "أبي كفاح"؟
- حلاقة الذقن بنصف دينار فقط يا "ثاقب ".
- حسناً ..علمت ذلك .
- نعيماً .
- أنعم الله عليك .
- تفضل .. نصف دينارك .
- أشكرك .. مع السلامة.
خرج يطوي بذيله خيبة الأمل، يأنب نفسه كثيراً : كان يجب أن أعرض عليه مالاً أكثر ، استسلمت له سريعاً ،لكنني خفت أن يرفع صوته فينفضح الأمر ، نعم .ما فعلته كان عين العقل ،إنسان غريب ... معقول أنه يرفض هذا المبلغ الكبير ؟!
لا بأس... مازالت الفرصة أمامي ،سأزيد من المبلغ، وأحاول أن أشتري "محمود" البقال ،فقد اشتهر عنه الطمع وحبه للمال .أخرج خصلة الأوراق الصغيرة من جيبه ، زاد عليها من الحفنة الكبيرة :
- السلام عليكم
- عليكم السلام
- كيف حالك يا" محمود" ؟
- الحمد لله.
- هل عندك سجائر ؟
- أي نوع ؟
- النوع الأجنبي .
- لا أبيعها .
- لما ؟!
- أنا لا أبيع إلا النوع المحلي .
- لكن النوع الأجنبي مكسبه أكثر .
- أعلم . لكن ألم تسمع عن المقاطعة ؟
- وماذا تفعل المقاطعة مع اسلحتهم يا رجل ؟
- أضعف الإيمان يا "ثاقب".
- تغيرت كثيراً يا "محمود".
- لست وحدي من تغير .
- الجدال معك لا يجدي . أعطني صندوق من السجائر المحلية .
- تفضل .
- أشكرك .. أنا الآن انضممت للمقاطعة .. هه..هه..هه.
- المقاطعة واجب وطني .
- نعم. والجهاد كذلك واجب وطني .
- أعان الله المجاهدين .
- ألم تسمع شيئاً عن قائدهم.. فهو جارك .
- لا. منذ أن ترك الحي واتجه للجهاد لم اره .
- آه ... كم ثمن السجائر؟
- دينار واحد فقط .
أخرج باقة النقود الحائرة، ألقاها أمامه ،ثم أحنى رأسه البيضوي نحو أذنه:
- ألا تعرف شيئاً عن "أبي كفاح ".
- ماذا؟!
- سأعطيك مثلهم ان أدليت لي بمعلومات عنه .
- السجائر ثمنها دينار فقط يا "ثاقب".
- سأعطيك من"الدولارات" أكثروأكثر إن شئت .
- أنا لا اتعامل إلا بالدينار. لي عندك دينار واحد.
- أهي المقاطعة إذاً .
- نعم . هي كذلك .
- آه .. تفضل دينارك يا عاشق الفقر.
- شكرا ومع السلامة .
خرج يضرب كفاً بكف ، ماذا حدث للناس ؟ ، "محمود " الذي كنا نلقبه "بمحمود" الطماع ينضم للمقاطعة ، يرفض آلاف الدولارات ،أظن أنني بالمدينة الفاضلة ولست في مدينتي التي ولدت وعشت بها ، منذ أن دق بابنا "أنصار السلام" وقد تبدل كل شئ ، الكل هنا يعتبرهم غزاة طامعين ، تحولوا إلى أناس آخرين غير الذي عشت معهم وعاشرتهم ، الشيخ "نبيل" الذي كان لا يجرؤ أن يهاجم الحكومة في خطبه اليوم يحشد الناس للحرب والجهاد دون خوف أو رهبة، ماذا حدث ؟! لم أعد أسمع أحداً يتكلم على أحد ، فمحل " حسين " الحلاق كان لا يخلو من النم و الغيبة في حق الأخرين ، اليوم تحول إلى مسرحاً ينقل فيه أخبار المقاومة . ما هذا ؟! شئ غريب .. النقال يدق .. من يا ترى ؟
- ألوو؟
- ثاقب أين أنت ؟
- سيدي ؟
- أنا موجود . طوع أمرك .
- هل أحضرت المعلومات التي طلبتها منك .
- نعم . تقريباً .
- لا يوجد عندنا شيئاً تقريبياً .
- بالتأكيد سيدي .
- جمعت المعلومات أم لا ؟
- نعم سيدي . جمعتها .
- تعال هنا حالا وأدلي بها فأنا اريد القضاء عليه الليلة .
- حاضر سيدي . سأكون عندك حالا .
انغلق خط الهاتف ، انفتح التلفاز باليوم التالي على نشرة أخبار التاسعة مساءً بمقهى الحاج "على" ينزف بخبر قصف العدوان للمسجد الشرقي ،الذي أسفر عن مقتل عشرات المصلين، و قائد المجاهدين الذي كان يصلي بهم .
محمد سامي البوهي
دمياط : 2/أغسطس/2006