مونولوجية الحدث و أبعاد الرؤىكعادتي في كل يوم استيقظ باكرا00 رغم ســـهري الطويل في الليلـة الماضـــــية، كان الشـــوق يقودني لرؤيــــــة تلاميــذ مدرســـــتي وهم يتباهـون بألبستهــم الجديــدة بعـــد أن تخلصوا من ألبستهم المدرسية وكأنهم يقولون بعـــد عام من الجهـــد أهلا بوقــت اللعب واللهو ، إنهم الآن ينتظرون تسلم الجلاء المدرسي والكل في حالــة من الـفــــــرح المشوب بشيء من القلـق ، أما أنا فكانت الأمــور مختلفــة بالنسبة لي ، فكنت أتلهف لرؤية أولئك التلاميــذ وهــم في قمة سعادتهــم ،هيـــأت نفسي وانطلقت نحو مدرستي التي أعمل فيها مرشــــدا اجتماعيا والتي تبعــــد عن منزلي مسافة قصيرة ، قـــد تعودت كل صباح أن أطيل مسافة الوصول إلى المدرسة كنـوع من الرياضة، خاصـــــة وأن خريف العمر على الأبواب 000 لكن صدقوني لم تكن المســـــــــافة هذه التي أقطعهــــا عادة على حســـــاب الدوام الرسمي 000 في هذا اليــوم تبـــدو شوارع المدينـــة مزدانـة جميلة على غير عادتها كنت أشــــــاهد الفــرح على كل الوجـــوه حتى ذلك الحارس الليلي الموظف في الدائـــــرة الحكومية التي أمر من أمامها كل يـوم في طريقي نحو المدرسة متغير المزاج هذا الصباح لأنني أعرفه جيــدا ولولا الخجل لما ألقيت عليه التحية الصبـــــــاحية لأنه كان يـــرد تحيتــــي بينما كانت ملامـــــح وجهه العابسة تشعرني أحيانا بأنه ناقم على الحياة 000 وكم كان ينتابنــــي هاجس أن أقــول له : تواضــع يا أخـــي ورد التحيـــة بأحسن منهـــا لكنني كنـــت أتراجـــع خوفـــا مــــن أن يصــــب جام غضبــه علي وحتى الحاجـــة أم محمود والتي تقطـن بجانــب المدرسة تخاطــب جارها هذا اليوم بلطف غير اعتيادي أيضا وهي المعتادة دائما أن توزع كل صباح مزيدا من الشتائم على أبناء الحي وعند المساء تلعـــن الســــاعة التي سكنت فيها هـذا الحي السقيم ، تأملتُ أم محمود 000فتذكرت أيام الشقاوة يوم كنا أطفال لا تتجاوز أعمارنا الخامسة تذكرت خالتي أم العبد والتي كانت تسكن وحدهـــا في بيت من الطين بابه من التوتيـــــاء كنـا نتبـــادل الأدوار برمي الحجــارة على باب بيتهــا فتصرخ من الداخل وتبــــدأ بالشتائم علينا وعلى أهلنـــــــا الذين لـــم يهتمـــوا بتربيتـــنا حسب قولها ( ولاد عديمين التربية) وفي إحـــدى المرات التي كنا نُغيـْــرُ بها على بيت الخالة أم العبــد تعثر صديقي أحمد وتأذى من رجله أذكر يومها كم كانت خالتي أم العبد حزينة وهي تحنو بلهفة على هذا الشقي لتطمئن عليــه ، وأخذت تدعو ربها أن يشفى وأن يــدب بها المرض، شاهدت يومها مــدى الحــزن الذي بــدا على خالتي ومن يومهــا تعاهدت مع رفاقي ألا نزعجها واتفقنا أن يذهب كل يوم واحد منا لبيتها ليؤمن لها احتياجاتها من الخبز والأشــــــياء الضرورية الأخرى 000 تابعت سيري إلى المدرسة000 كان الجميع منهمك بالعمل من أجل توزيع الجلاء المدرسي على التلاميذ كان الفرح المشوب بالقلق باديا على التلاميــــذ جميعا 00وهم يتراكضون كالفراشات في باحة المدرســــة 00الثياب ملونــــة بألــــوان الزهـور، وهم أيضا زهور هذا العالم البريء000 وقفـــت وسط الباحة أحاط بي التلاميذ من كل جانب 00 باركــت لهم جميعا كانــوا فرحين جدا الكل طموح لينال العلامة التامة حتى نيسان هـــذه التلميـذة الدلوعة والتي يشهد لها كل معلميها أن لها مستقبلا يبشر بالخير إن واكبت نشاطها الدراسي ، كانت قلقة أيضا 000 بلحظة واحـدة تحول المشهد لشيء مختلف تحـــولت الباحـــة إلى غابـــة من أشجار السنديان وتحولــت الجــدران إلى متاريس 00 كل شيء تغير000 كلما نظرت في وجه تلميـــذ كنت أشاهــد محمد الدرة ، كان التلاميذ يراقبون المشـــــهد جيدا كانــت الأرض تتحــول إلى مـرج أخضر وكان نيسان يخالــــف كل مواعيد هــــذا العام 000 بـــدأت أسمع صوتا جهوريا يخترق سمع الجميع ، وقـــف مدير المدرسة ليعلـــن أسماء التلاميـــذ الأوائـل في المدرســة غابــــت عنه كل الأسماء، اختفـى الصوت داخل حنجرته ثم حــاول من جديـــــد 00استجمع قــــواه فخرج الصوت قويا كأنه الجلجلة أبنائي الأعـــزاء لنصفق جميعا للتلميـــذ الأول الـــذي حاز على المرتبـــة الأولى 000مرتبـة الشرف التلميــــذ محمـــد الــدرة عندهـــا رفــــع التلاميــــذ رؤوسهم جميعا إلى السماء كانت الشمس تزداد توهجا وصهيل الخيــــول يأخــــــذ مـــداه ومن فــوق الهامات يعبـــر سرب من اليمـــام 00 أصطف الجميــــع وبنظام لــم نعهــده سابقــا وبكل هــــــدوء 000 ارتفعــت الأيــــدي حتى لامست الجباه كانت الهامات مرفوعة 000 ارتفـــــع الصوت عاليــــا 000 جميلا وواعـــدا هادرا000 بلادي 000بـــلادي لك حبـــــي وفــــــــؤادي فامتزجــــت الأشياء ببعضهــا ، فتكونــت لوحة جديــدة تجلى فيهــا الوطـــن بأجمل صوره وأخــــذت العصافير تسبح في الفضاء تعـد طقــوس الفرح و الأصوات تنبعـــث من حناجـــر التلاميـــذ مدويــة والقبضـــات تتعالى ، عندها وجــدت نفسي بيـــن الحشـــود الكبيرة التي تجــاوزت الباحــــة المدرسية إلى الشوارع والحـارات والمـدن العتيقــة ، والتـــــي توزعـــت على امتــداد الوطـــن ، أردد مــــــع التلاميـــــذ بالـــــــدم بالــــــروح نفديــــك يا شهيـــــد 0
في نص (المتفوق الأول ) ( للقاص عبد الرحمن حسن )
الدارسان : حسين علي الهنداوي – حاتم قاسم
نص القصة القصيرة :
المتفوق الأول
الدراسة النقدية :
حينما تنبض الحروف بين حنايا الشوق و ينقلك الحنين إلى الشهادة إلى مصاف الفرح و تتجاوز حدود الألوان المشروعة مساحة الضوء الإنســــاني ترتسم الشهادة قوس قزح على شفاه الطفولة العذبة لتتحول إلى اســتجابات إنسانية تمتزج فيها التضحية بالدماء بالتراب المقدس و يتعمق الحدس بفعل الشــهادة بأعماق اللاشعور و تبرز العاطفة الإنسانية المصفاة ببعديها الطفولـي و الفدائي و لكن تراتيل الحدث و مونولوجيته ترتسم في وسط الزحام لتشرق من جديد بين عيني الدرة شمساً جديدة تتنسمها روابي الأرض الفلسطينية 0
المتفوق الأول للقاص عبد الرحمن حسن انموذج جديد لمضمون قديم حملنا فيه القاص إلى أحضان البعد الآخر من التضحية الذي أطره لنا القرآن الكريــم من خلال مفهوم الشهادة التي هي في نهاية المطاف خلود لا يستطيع العقل البشري أن يتصور أبعاده المتجددة 0
نحن إذاً أمام نص قصصي يختزل فيه القاص حكاية الطفولة الفلســطينية التي يرافقها موكب الحجر الفلسطيني في فجائعية تجاوزت الحزن إلى رســم ملحمة إنسانية تسفك فيها الدماء لترتوي الأرض و يتحول فيها البرتقال الفلسطيني إلى رصاصات جهاد ترسم أيضاً فوق مآذن المسجد الأقصى فضاءً برتقالــياً يلوح للمترقبين خارج الأرض الفلسطينية عودة لأرضــهم و القاص أحد هــؤلاء المترقبين الذين ما زالت تختزن ذواكرهم بالبرتقال الحيفاوي
000)) ارتفـــــع الصوت عاليــــا 000 جميلا وواعـــدا هادرا000 بلادي 000بـــلادي لك حبـــــي وفــــــــؤادي فامتزجــــت الأشياء ببعضهــا ، فتكونــت لوحة جديــدة تجلى فيهــا الوطـــن بأجمل صوره وأخــــذت العصافير تسبح في الفضاء تعـد طقــوس الفرح ))
إذن القاص و من خلال نصه ما زالت طفولته المختزنة تتأرج أمامه في الطريق
يرقب ما يرقبه الأطفال عند مرورهم في الطرقات فهو يألف طرقه و لا ينســى منه تعابير الوجه عند نساء الحي اللواتي كن َّ يعترضنه و كأنه يريد أن يؤكد لنا إن طفولة محمد الدرة الخريطة الدموية للشهادة الفلسطينية هي امتداد لطفولته التي بدأت تستيقظ بفعل ما رآه العالم على شاشات التلفزة 0
سيكولوجية الشهادة في مفهوم القاص عبد الرحمن حسن ( حاتم قاسم )
بين الحبل السري للقاص عبد الرحمن حسن و بين الشهادة تتســلق الطفولة الفلسطينية التي حملت على عاتقها هموم الرحيل و الغربة و الاغتراب إضافـة إلى لواعج الحنين و الشوق التي تربط الطفولة بمرابع اللهو و المتصفـح لنص القاص ( المتفوق الأول ) و لشخصية القاص التي سعت إلى أن تكون الرعـيل الأول من الأطفال الفلسطينيين الذين يحلمون بالوصول إلى فلسطين تحريراً يجد أن تطابقاً مريراً بين شخصية الكاتب و طفولته و شخصية محمد الدرة و طفولته أيضاً فكلا الشخصيتين شخصية الدرة و شخصية القاص انموذجــاً واحداً لطفل فلسطيني يحلم و يبرمج حياته ليعود إلى مرابع الصبا 0
و لا تكمن المشكلة في النص في السباقات التي يألفها الأطفال للفوز بجوائــز دنيوية و لكنها تبدو مريرة في السباق من أجل الشــهادة دفاعاً عن الأرض و العرض و هذا ما أطره القاص في نصه 0
التقييم المفرداتي لنص ( المتفوق الأول ) للقاص عبد الرحمن حسن ( حسين الهنداوي )
يبدو أن القاص عبد الرحمن حسن في نصه المتفوق الأول الذي حمل إلينا البعد الشهادي في ذاكرة الطفل الفلسطيني تتأرجح مفرداته بين الفن المقالي و القيم التعبيرية للنص القصصي ذلك أن المفردات التي استخدمها القاص في نصه لم ترد أن تفصح عن أسرارها الماورائية بشكل مونولوجي بقدر ما أرادت أن تؤكد على معيارية اللغة التي يلتقمها الناس في أحاديثهم 0
مفردات حملها إلينا الكاتب و اختزنت في ذاكرتها بعداً شـعورياً يجعل الإنسان يلتصق بالعاطفة الإنسانية أكثر مما صنعـــته من أجنحة لتحلق بخيالها في فضاءات طفولية و نحن جميعاً نعرف أن الطفولة هي حلم و بالتالي هي طيور تتنقل بين أغصان الحياة و لكنها عند الكاتب بدت طفولة تنتقي مفرداتها بشكل دقيق لا لأن الكاتب يتصنع ذلك و لكن لأن الطفولة الفلســطينية نفسها تعيش مرحلة الكهولة فهي بعد هذا الصراع المرير مع آلة الوحشـية الصهيونية تعي بأن الحياة لا تعني اللعب و لا تعني السباق الذي ينتهي بجائزة مسـلية بقدر ما هي تصف المتفوق الأول الذي يصل إلى مرتبة الشهادة و هذه ظاهرة تفرد بها الكاتب إذ جعل الطفولة الفلسطينية رجلاً حكيماً يعي أفعـــاله و يدرك محتوى قضيته و أبعادها
((وكان نيسان يخالــــف كل مواعيد هــــذا العام 000 بـــدأت أسمع صوتا جهوريا يخترق سمع الجميع ، وقـــف مدير المدرسة ليعلـــن أسماء التلاميـــذ الأوائـل في المدرســة غابــــت عنه كل الأسماء، اختفـى الصوت داخل حنجرته ثم حــاول من جديـــــد 00استجمع قــــواه فخرج الصوت قويا كأنه الجلجلة أبنائي الأعـــزاء لنصفق جميعا للتلميـــذ الأول الـــذي حاز على المرتبـــة الأولى 000مرتبـة الشرف التلميــــذ محمـــد الــدرة ))
بقي أن نقول إن للنص أبعاداً أخرى تحمل الهم الفلســطيني و المعاناة القاسية التي يعيشها كل مبعد عن أرضه و هي تحتاج إلى قراءة أخرى تبرز ذلك الهم و تصور أبعاده