التاسع والعشرون من أكتوبر
والذكريات المؤلمة
بقلم : د محمد أيوب
نصف قرن مضى على مجزرة كفر قاسم التي تصادف ذكرى وقوعها اليوم ، ففي صباح يوم الاثنين التاسع والعشرين من أكتوبر سنة 1956 م ، كنا نجلس على مقاعد الدراسة في مدرسة خان يونس الثانوية ، كنت يومها في الصف الأول الثانوي " الثالث الإعدادي أو التاسع في هذه الأيام " فقد كانت المرحلة الابتدائية أربع سنوات والمرحلة الإعدادية أربع سنوات ، كنا في حصة اللغة الإنجليزية عندما صفعت أسماعنا أصوات طائرات المستير فرنسية الصنع ، طلب منا المدرس عبد الكريم ريان أن نختبئ تحت مقاعد الدراسة ، ابتسمت تعبيرا عن عدم قناعتي ولكني لم أجد بدا من تنفيذ أوامر المعلم حتى ولو انهار السقف علينا جميعا ، ولكن الطائرات كانت تسعى إلى هدف أكبر منا . خرجنا من المدرسة وكلنا أمل أن نعود في اليوم التالي إلى مقاعد الدراسة ، انتشرت أخبار مذبحة كفر قاسم التي ارتكبها الجيش والشرطة الإسرائيلية ضد عمال مدينة كفر قاسم العائدين من أعمالهم ، حيث تم فرض نظام حظر التجول قبل انتهاء يوم العمل ، تربص الجيش للعمال العائدين إلى منازلهم وأطلق عليهم النيران بحجة أنهم خرقوا نظام حظر التجوال الذي لم يكونوا يعلمون بوجوده أصلا ، قتلوا العشرات من العمال ليرهبوا العرب الذي بقوا في ديارهم داخل إسرائيل ولم يغادروها .
هبت الحرب واشتد القتال وحلقت الطائرات فوقنا تطلق علينا رصاصها لتسقط علينا الرصاصات الفارغة فيحولها السمكري إلى قداحات تستخدم في إشعال مواقد الكيروسين والسجائر ، كانت صنابير المياه وكذلك دورات المياه في الشوارع وقتها ، طلبت مني والدتي في يوم الثلاثاء أن أملأ جرتنا بالماء ، وقبل أن يصلني الدور جاءت أربع طائرات مستير وبدأت تطلق الرصاص علينا ، انقذفنا جميعا في خندق مجاور ، الرجل والنساء الذين تناسوا الفروق الجنسية بينهم وانقذف جسدي فوق الجميع إلى أن ذهبت الطائرات فملأت جرتي حتى نجد ما نشربه لو اشتدت الأمور . كانت المعارك العنيفة تدور في سيناء ، تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في معركة الممرات وخصوصا في الكونتيلا ، ومن سوء حظنا أن يكون نصيب مدينتنا ومخيمنا مع هذه الكتيبة التي عادت مهزومة من الكونتيلا بعد أن فقدت كثيرا من أفرادها ، بدأ الجنود باقتحام المنازل ، كنا قد غادرنا بيتنا إلى بيت عمي وجدتي حرصا على أن نموت معا أو أن نحيا معا ، دخل الجنود بيتنا فلم يجدوا أحدا فيه فانتقلوا إلى بيت جيراننا ، طلبوا من ابنهم الوحيد وهو ما زال طفلا أن يدير وجهه نحو الحائط في غرفة نومه ، بكت أمه ورجاهم والده الضرير أن يرحموا شيبته وأن يبقوا له ابنه الوحيد ، ولكنهم أطلقوا عليه الرصاص وتركوه يموت دون أن يساعده أحد .
كنت في بيت عمي لا أعلم بما يجري في الخارج ، أسمع فقط صوت إطلاق النيران المكتوم ، لم أكن أعلم أنهم قتلوا حسينا أعز أصدقائي مع أخيه العريس حسن ، كان حسن قد تزوج حديثا ، كانت زوجته رائعة الجمال ، كان اسمها حياة ، وقد أحبتني كثيرا ، فقد كنت مبهورا بجمالها ، أطلقت علي لقب " سكر " ولكنها لم تهنأ بحياتها فقد اختطف الموت زوجها وهي حامل لتولد ابنتها محرومة من الأب ولتغادر بيت الزوجية إلى بيت أهلها في العريش ، ذهبت حياة وذهب معها طعم الحياة الجميلة على الرغم من البؤس وشظف العيش ، كما قتل صديقي نمر أبو مسلم وإخوته داوود وصبحي وعدد ممن يختبئون عندهم ونجا شقيقه خضر من الموت بأعجوبة وما زال حيا حتى الآن ، فقد تظاهر بعد إصابته بالموت حتى لا يطلقوا الرصاص عليه من جديد إذا اكتشفوا أنه حي .
دخلوا بيت جارنا إبراهيم المقنن ، طلبوا من أخيه عادل الذي ترك بيته المجاور لبيت عمي أن يقف عند الجدار وأطلقوا عليه النار فاخترق الرصاص كتفه الأيمن وصار يتلوى والدم يتدفق منه بغزارة وقد شل ذراعه بعد ذلك ، طلب إبراهيم من الجندي أن يطلق الرصاص على رأسه مباشرة حتى لا يتعذب مثل أخيه ، وقد استجاب الجندي لرغبته ، وقبل أن ينطلق الرصاص كان إبراهيم قد مد يده نحو ماسورة البندقية ، لم يلحظ الجندي أنه لم يصب بينما وقع هو مغشيا عليه ، وبعد فترة فتح عينية فرأى شباك الغرفة مفتوحا ، اعتقد أن الميت يمكن أن يرى ما حوله ، ولكي يتأكد مد يده نحو رأسه فوجد أنه لم يصب ، أصابه الرعب فبدأ يبحث عن مخبأ له فلم يجد سوى قن الدجاج " عشة الفراخ " فاختبأ هناك إلى أن انتهت المجزرة ، توجهوا إلى بيت يوسف نصر وأطلقوا عليه وعلى عديله النار ، وبعد أن خرجوا تحسس عديله جسده فوجد أنه لم يصب فاعتقد أن الرصاص الذي يطلقونه يصدر صوتا فقط ، نادى على عديله أن انهض فلم يرد عليه ، مد يده نحوه فتبللت بدمه الحار ، أصيب بالرعب واختبأ في قن الدجاج أيضا .
دق جار عمي على شباك الغرفة التي كنت أختبئ فيها وطلب منا أن نرفع راية بيضاء وأن نخرج لتسليم أنفسنا ، وقبل أن نقتنع بذلك نظرت من على عتبة البيت فرأيت مجموعة من الناس يرفعون أيديهم ويرتجفون ، قلت لعمي : هل نذهب لنسلم أنفسنا لهم ؟ وقبل أن يرد علي انطلقت زخات الرصاص وبدءوا يتساقطون واحدا بعد الآخر ، وقد عرفنا فيما بعد أنهم كانوا ثمانية عشر شخصا .
ضاقت علي الدنيا بما رحبت وصرت أتنقل من مكان إلى آخر داخل الغرفة وفي كل مكان أنتقل إليه كنت لا أشعر بالأمان ، إلى أن توقفت عمليات القتل بعد عصر يوم السبت الثالث من نوفمبر تشرين الثاني ، أرسلنا أختي الصغيرة لتجلب لنا الدقيق من بيتنا وتتفحص الأمر ، أوصيناها ألا تتفوه بكلمة إن سألها الجنود أي سؤال ، كانت جريئة لم تخف ، ولم يخش أبي عليها من القتل ، عادت لتخبرنا بأن القتلى في الشوارع وأن اليهود يحاصرون الناس رجالا ونساء في قهوة أبو مسلم ويصوبون نحوهم الرشاشات .
بعد يومين رفعوا حظر التجول ، خرجت من البيت للتبول في المرحاض المجاور ، ولكني فضلت أن أتبول خارج المرحاض حذرا من المفاجئات ، جاء من خلفي جنديان فتوقف تدفق البول ، ولكنهما لم يكلماني بل ألصقا على جدار دورة المياه منشورا موقعا من قائد قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في قطاع غزة " سيغان ألوف حاييم غاءون " يطالب فيه السكان بتسليم أسلحتهم والتزام الهدوء ويهدد بمعاقبة المخالفين .
كان يوما عصيبا ، كان أطول من أطول يوم في التاريخ ، ترى فيه الموت بالألوان وكانت الأيام التالية أياما بالغة السوء ، فقد بدأ الناس في جمع موتاهم الذين انبعثت منهم روائح كريهة تزكم الأنوف ، نقلوهم على العربات التي تجرها الحمير وقد أخذ كل من في الشارع يغلقون أنوفهم حتى لا يشموا رائحة من كانوا أحباءهم بالأمس القريب ، وقد بلغ عدد من قتلوا حوالي ثمانمائة شهيد في ذلك اليوم ، وقد أصر والدي أن يحلق لي شعري على الصفر حتى أبدو أصغر من سني بعد أن عرف أنهم قتلوا صديقي العزيز وابن صفي .
كنت قبل العدوان آخذ طلبات التطوع التي تنشرها جريدة الجمهورية وأعبئ بياناتها وأضعه في صندوق البريد وأنتظر أن تصلني رسالة يبلغونني فيها بأنهم قبلوني متطوعا للدفاع عن قناة السويس ، كنت أرى أن تحرير القناة من سيطرة الاحتكارات الغربية تشكل خطوة على طريق تحرير فلسطين ، ولكن الطريق طالت وما زال الدرب طويلا والمؤامرات كثيرة ، تحاك ضدنا من الداخل ومن الخارج ، فهل نصل ذات يوم ، آمل أن يحدث ذلك وأنا على قيد الحياة لأفرح ولو لساعة واحدة أموت بعدها وأنا مطمئن النفس هادئ البال .