مقدمة تمهيدية لرواية "شواطئ قديمة" للأديبة المبدعة صابرين الصباغ
الرواية عمل متكامل ، ومن ثم فإن أية قراءة لثلاثة الفصول هنا - مهما أجادت - ستظل مجرد اجتهادٍ في غياب النص الكلي فلا نستطيع أن نقدم نقدا موضوعيا لثلاثة فصول من رواية لم تقل لنا الكاتبة عدد فصولها لنعرف حتى نسبة المقروء إلى غير المقروء
على أن هذه الفصول في بداية الرواية تمدنا بالخيوط الأولى التي ستنسج بها كاتبتنا روايتها وهي تشي بعدد لا بأس به من العناصر يأتي في مقدمتها
عنصر التشويق:
عندما قرأت هذا المشهد في مطلع القصة ظننت أننا سنكون أمام قصة رعبٍ قبل أن تفصح القاصة عن أن ضمائر الغيبة تعود إلى خروف. فقد جاءت الضمائر عائدة على غير مذكور مما يجعل الفكر يعيدها إلى رجل مثلا ، وهذا ما يسميه النحاة عود الضمير على غير مذكور والغرض منه التشويق وكأن القاصة تريد بهذه البداية المثيرة أن تهيء القراء إلى ما سيتلو من أحداث. وكأنه تمهيدٌ لشيء قريب منه.
أما عناوين الفصول(نوة عشق- صراخ البحر – الدوامة) فجاءت موفقة لتصوير أجواء القصة لنعيشها معها من زاويتين: الأولى : رسم المشهد عبرَ ارتباطها بالمكان (الإسكندرية/البحر) اللذين نكتشف أنهما شخصيتان من شخوص القصة ،
والثانية : لترمز إلى ما تموج به أعماق البطلة والأحداث أيضا من اصطخاب واضطراب.
أما العنصر الثاني قهو رسم الزمان والمكان،
ومما يدل على قيمتهما هنا كما يوحي عنوان الرواية (شواطئ قديمة) حيث يدل المضاف على المكان والمضاف إليه على الزمان.
حيوية حركة الزمان:
اتسم عنصر الزمان في الرواية كما تجلى من الفصول الثلاثة بالحركة والحيوية والتجدد عبر غلبة استعمال الفعل المضارع الذي يفيد في تصوير الأحداث وتجسيدها كأنما تعرض الآن أمامنا عرضا حيا، وقد جاء هذا متسقا مع مفهوم الزمان في الرواية الحديثة حيث يختلف مفهوم الزمان الروائي بين التقليديين والروائيين الجدد كما يخبرنا الأستاذ سعيد يقطين في كتابه القيم بعنوان :تحليل الخطاب الروائي(الزمن-السرد-التبئير) مقارنا بين الزمن بين الرؤيتين :في مبحث: الروائيون الجدد والزمن:
"الزمن اللغوي مطابق للزمن الواقعي وعلى أساس هذا الفهم وظف الروائيون التقليديون الزمن، وذلك بقصد مماثلة العالم الواقعي ، ولكن الوصف في الرواية الجديدة يختلف جذريا لأن أهميته لا تكمن في الموصوف ولكن في حركة الوصف نفسها، ونلاحظ الشيء نفسه بالنسبة للزمن".
ويقول:"مع الرواية الجديدة والتنظيرات المواكبة لها والتي تجد لها في أعمال روائية مهمة عند أمثال بروست وفولكنر وغيرهما تتخذ مقولة الزمن أبعادا ودلالات جديدة سواء في الممارسة (الكتابة الروائية )أو في التحليل آن الأوان لمساءلتها ومعاينة أبرز خصائصها". (سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي : 67
فالفن الروائي ليس نقلا حرفيا للواقع وإنما إعادة صياغته في حياة موازية له
والمتأمل إلى رواية : شواطئ قديمة يراها تنتمي إلى مفهوم الرواية الجديدة من حيث تنويع أبعاد الزمان ودلالاته في السياق الروائي ، كما يتجلى في الاستهلال كما لاحظ الإخوة الكرام:
"أمسكتُ بها ، أنظر إليه ، يتملقني بعينيه المفتوحتين ، التي دُفنتْ داخلهما حياة، كانت تلهو بحلبة جفنيه منذ ساعة ..".
فنلاحظ التراوح بين الماضي(الإطار) والحاضر (الحركة) في براعة تجمع بين زمن الأخبار (أمسكت بها ) وحركة التأمل (يتأملني)
واختيار المضارع هنا يثير شعورا بالتعاطف لا يتحقق لو استمر الماضي .ولهذا يتغلب المضارع ويبرز بينما يختفي الماضي :" أخيراً ينام مستسلماً لأمر الله ، تلك النظرة الأخيرة التي لم تخرج مع روحه ؛ بقيتْ تحمل بين طياتها خوفاً – حزناً – رهبة ..
بين يديَّ رأسه ، يتدلى منها لسانه ، كأنه كان يريد أن يبوح بشيء قبل أن يُدفن صوته داخله .."
وكأننا نشاهده يعرض أمامنا الآن.
ومن هنا كان توظيف الالتفات ببراعة للدلالة على فيما يتعلق بالأزمنة والضمائر.
والالتفات : وهو الانتقال من زمن إلى زمن أو من ضمير إلى ضمير ، أسلوب من أساليب لغتنا الجميلة يقول علماء البلاغة
"واعلم أن الالتفات من محاسن الكلام، ووجه حسنه (على ما ذكر الزمخشري) هو أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن نظرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختص مواقعه بلطائف " (القزويني:الإيضاح في علوم البلاغة(
وقد جعلت منه مدخلا لقراءة نص الأستاذة أهداب الليالي هنا:
HTTP://WWW.RABITAT-ALWAHA.NET/MOLTAQ...T=17368&PAGE=3
أما في رواية شواطئ قديمة فقد أحسنت الأستاذة صابرين في استثماره في التنقل بالقارئ ببراعة
على مستوى الأزمنة ومستوى الضمائر. للدلالة على تعدد مستويات القصة .
الحوار: جاء الحوار في القصة منتميا إلى مستوى شاعري مجازي
- قل لها أيها الكبير .. ينفرطُ نبضي كالعقد تحت قدميها ، ليتها تجمعه ، تصوغهُ وتُزينُ به جيد مشاعرها ، لو تعرف كمْ كُنتُ أخطط للقائها صدفة ، خُطط عشقٍ ، لم يرتب لها عاشقٌ من قبل ..؟ كم بِتُ ليالي طوالاً أرسم وجهها على لوحات وجداني ، بلا فرشاة ولا ألوان ..؟ كم حلمت معها ، بالعدو تحت ذات المطر ، وذات المدينة ، العاشقة لكَ بكل عنفوانها ، هدوئها ، ثوراتها ..؟ قل لها أريدها بجواري ، تحصد معي انتصاراتي ، غنائمي وحتى خسائري ، أنا رجلٌ مزقني غرامها ، قل لها: .. تجمع عمري في راحة يديها ...
يطولُ الصمت ليتحدث وحده ، يدخل مع كل منا في حوار خاص به ، نبتسم ثلاثتنا ...
وأختلف مع بعض النقاد الذين يرفضون هذا الضرب من لغة الحوار بحجة أنه يبتعد عن الواقعية، لأنني مؤمن أولا بحرية القاصّ في الاختيار، وثانيا بأن الفن الروائي ليس تسجيلا حرفيا للواقع، وقد قرأت لكثير من النقاد قديما تنبؤوا بفشل نجيب محفوظ ؛ لأنه يجعل جميع الشخصيات تتحدث بلغة فصحى تنتمي إلى المستوى الأدبي، حتى عن المعلم كرشة (مثلا) في رواية زقاق المدق يقول عن شيء أخفاه:"لقد خبأته في حرزٍ حريز".
صاح هؤلاء النقاد: أنى لهذا الرجل الساكن في زقاق شعبي أن يتكلم بهذه اللغة؟ ، ونسوا أننا في نصٍّ أدبي روائي له منطقه الخاص، وطبيعته المستقلة
الأستاذة صابرين :
أرجو أن تقبلي هذه المقدمة ، تحيةً لروايتك التي تُبشِّر بالكثير من مظاهر التجديد والإبداع على مستوى الرؤية والأداة في فن الرواية ، ولي عودة بعد اكتمالها إن شاء الله