لماذا أنا؟
كنتُ أنظر إليهما باضطراب تصطك به أسناني خوفًا , وحيرة مما أسمعُ وأرى ..أرتعش يمامة ً أغرقها مطرُ الفجأة بالرَّهبة, فلا أجد جناحًا يدفئني زغبُ حنانه بطمأنينةٍ , وهما يكيلان لبعضهما الشتائم , وأحيانًا السباب المخجل -الذي تردده على مسمعي ذاكرة فجَّة الطباع , لاتحب أن تراني نسيت منها لحظةَ عذاب - وأنا عاجزة بسنواتي الست الليِّنة عن وقف هذه المشاحنات الصَّاخبة التي انتهت بطلاقهما, وتولتْ جدتي وجدي لأمي مسؤولية رعايتي بعد زواج والديَّ كلٌ غير الآخر..إحساسي بالخوف مازال يرافقني حتى اليوم , وقد امتشقتُ قامةَ وفكرَ ودراسةَ ابنة الثامنة عشرة عاما..خوفي هذه المرة لم يكن ضعيفًا قزمًا بحجم جسدي الضئيل الطري عندما كنت طفلة , بل تكاثر و تمطَّى بوحشية فوق سنواتِ عمري الراحلة في غياهب الماضي المفعم بالسواد , فالحاضرِ المتألم بالغربة عن كنف أسرة دافئة المحبة بتفاهم أفرادها, وربما سيمتد تمطِّيه المفزع إلى مستقبل أيامي إن هما بقيا بهذا الجفاء معاملة ً لي , وابتعادًا عن محرك فكري الذي يكاد يتوقف بسرعة خطو اليأس , الزاحف بقسوة نحو نفسي ,المتهالكة فوق بساطٍ تالفٍ من الصبر الهش, المحاصَرِ بجيوش الفشل من الجهات الأربع, وأشد ما كان يقلقني هو خوفي من حصار الأعلى , والأسفل , فأقع فريسة سهلة جدًا في شباك الخطيئة ,التي تنصبها تراكمات القلق والخوف , والحاجة لما هو حق لي كأي أنثى ترعاها عناية أبوين يخافان الله فيها, فينبتانها مشبعة العاطفة والحنان, والدفء العائلي دون التمزق الذي لايورث غير البلاء..رجوتُ أبي بضعفي وفقري إليه أن ينصف قلبًا تتساقط عنه أوراق الصفاء بسنين عجاف إلا من التحرق .. قرعتُ بابه بدموع حاجتي لسكينة ينعم بها وأولادُه ومرفأ أمن ترسوفيه سفينة أيامي التي تضربها بغضب أمواج مختلفة العواصف ,فلم يصغِ أذنًا لنداء حرماني , وارتعاشة ضعفي..كنتُ أسمع من المقربين إليه بأنه يسعدهم وزوجتـَه , فأحزن لصقيع حجرة روحي , ونواح شقائي في بيت تعيس .. أترجاه بمنحي بعض نارِدفء تقتل هجمات البرد المتوحشة,ٍ فيغلق بوجهي أبواب رحمته ونوافذها, والرِّيح تعصف في صحراء حياتي ..تعوي بذئاب بشرية , وكثبان الضلال تنشط برشقي بمغريات قد تعمي عيوني التي استهواهاْ العشى , وتشلُّ قدرتي على التصدي لما ألاقي وحيدة ضعيفة.. شقية ..منفية عن عالم يؤنس وحشتي ..يشدُّ قوتي ..يسند ضعفي بضوء يزيح عتمات الطريق ,فأمشى على هدى في دروب الحياة الموحشة بلادليل حاذق..تفلح صدري الأهاتُ بفأس المرار,فيشتد النزف داخلي طوفانًا يغرقني حتى الأعماق , فألجأ بعد جهدِ فكرٍ , ومريرِ مقاومة إلى نظارة بصيرتي أرد بها قِذى العاصفة , والدنيا تدور برأسي حيثما اتجهت, وتمور بي الدمعات....
وذات لحظة أحسست بانسحاب بساط الصبر المهترئ من تحت قدميَّ, وأنا أفرغ في أذنيهِ أنَّاتِ حرماني بمحادثة معه عبر الماسنجر ..شعرتُ به متأثرًا حدَّ البكاءِ بما أعانيه من عذاب ولوعة وحرمان ..كانت كلماته تحمل دفقًا عاطفيًا مواسيًا لقلبي اليتيم اللطيم , تكفي لسرقتي من واقعي المؤلم, بل من كلِّ ماعداه بعظيم الحاجة إليه, وتزجِّ بي بما لاأعلم له قرارا..رَكنَ هذا القلب إليه يشحذ منه قبضة دفءٍ تمنيتها في زمهريرٍ دائمِ الفصول ,شقـَّق جلدَ قلبي , وعصر رحيق ورد خديه في بوتقة الصَّمتِ البغيضِ,القابع في أعماق حاجتي لابتسامة وجه حنون..تكررت المحادثات , وكدت أنزلق فوقِ أرضِ تلوُّثٍ دون بقايا بساطِ الصَّبر..ثبَّتُّ قدميَّ وأنا أستجمع ما تناثر من قوَّتي في محاولة لزرعهما في الجوف الصخري لداخلي باختراق سماكة قشرة العجزالمخيفة , وأنا أنهي محادثتي معه وعلاقتي به, عندما طلب مني اللقاء بإصرارٍ غريب , ليمسحَ الدمعَ الحارقَ عن عيوني بعيدًا عن مراقبة زوجته , وأولاده , وعيونِ الفضوليين ..
بقلم
بنت البحر
يكفيكم فخرًا فأحمد منكم ***وكفى به نسبًا لعزِّ المؤمن