رواية "الأسوار": قراءة نقدية
بقلم: د. ربيع محمد عبد العزيز
أستاذ النقد والبلاغة المساعد - كلية دار العلوم بالفيوم
.................................................. ..................
1 - توِطئة :
فرغ الروائي محمد جبريل من كتابة الأسوار في السابع عشر من فبراير عام سبعين وتسعمائة وألف (1) ، ثم اختارتها الهيئة المصرية العامة للكتاب، في العاشر من ديسمبر عام ثلاثة وسبعين وتسعمائة وألف، لتكون أول رواية تصدرها في السلسلة المعروفة باسم روايات مختارة. وهذا اختيار يشف- من بعض الوجوه -عما تمتلكه الرواية من امتيازات فنية مفارقة للمنجز الروائي العربي في ذلك الوقت.
تقع الأسوار في حوالي تسعين وثماني صفحات من القطع الصغير، منها خمس صفحات ملأى برسوم مفعمة بالدلالة على البؤس والقهر(2) وصفحة مملوءة باقتباسات مختلفة مصادرها(3). تكتظ الرواية بالعديد من الشخصيات ذوي المشارب والأوساط المتباينة، و تعالج ثنائية القهر والحرية وما ينبثق عنها من ثنائيات فرعية، كالأثرة والإيثار، الثبات على المبدأ والمقايضة عليه، الخيانة وحب التضحية من أجل خلاص الآخرين. وكلها ثنائيات ذات طابع إنساني، وسبق أن عالجها روائيون عديدون ، مثل بلزاك (1799م -1850م ) في الأب"جوريو" ونجيب محفوظ في الكرنك وبداية ونهاية.
ولكن الأسوار تفارق المألوف على نحو ما يظهر في عتبات دخولها، وفيما ينتشر فيها من جمل حوارية فصيحة،شديدة التكثيف، متوترة توتر نزلاء المعتقل الذى جرت على أرضه أغلب الأحداث . إضافة إلى ما عول عليه الكاتب من تقنيات غير مألوفة ، كالوصل ، القطع ،الاسترجاع، القص واللصق (4) ،التناص ، تقاطع المناجاة والمونولوج مع الحوار.
بل إن استقبال الأسوار يباين، في شروطه،استقبال غيرها من الروايات،لاسيما في ظل التعقيد الذي لحق بالحبكة نتيجة تعويل الكاتب على التقنيات السابق ذكرها0
2– عتبات الرواية:
يعد العنوان" الأسوار" أول عتبات الرواية، وأول ما تقع عليه عين المتلقي، وهو عنوان متعدد الوظائف؛ فهو يعرف الرواية، ويشير إلى محتواها،و يمارس تأثيره الإغرائى في المتلقي، بفضل ما يحف به من شفيف الظلال التي يمتزج فيها الغموض بالتشاؤم ، والترقب بالتفاؤل الحذر.
وللعنـوان " الأسـوار" طبيعة مرجعية؛ فهـو يحيل إلــى النص،
كمـا أن الـنـص يحيـل إليـه، وبخـاصـة حيـن يـتقـدم القــارئ في القراءة حيث تطالعه تقارير سردية نحو: " الأسوار بقعة في جزيرة رملية يحدها الأفق من كل الجوانب. لا خطوط تليفون، ولا قضبان قطارات، ولا طرق رملية أو مرصوفة. العربات المتجهة إلى الأسوار تقذف بنفسها في الرمال الممتدة. ربما صادفت حفرة عميقة، تسلم نفسها إليها بلا قصد. ينزل السائق، ليرفعها النزلاء- فيما بعد- بأكتافهم.
الأسوار- من بعيد- مدينة أسطورية. كل ما بداخلها معزول عن العالم الخارجي.أبراج الحراسة، في الأركان الأربعة، مجهزة بالأنوار الكاشفة والمدافع الرشاشة. الممنوعات- ما عدا التقاط الأنفاس – تشمل كل شيء: الأقلام، والأوراق، والصحف ،والراديو، والمناقشات، والسجاير، والكبريت، والجبن والحلاوة، والشاي، والبن ". (5).
وقد وضع محمد جبريل لروايته عنوانين، أحدهما: الأسوار، وهو العنوان الرئيس الذي تقع عليه عين القارىء أول مرة على الغلاف الخارجي. والآخر: عنوان مصاحب للعنوان الرئيس، وهو" لحظات مصيرية" وتقع عليه عين القارىء على الغلاف الداخلي، ومن ثم يصبح العنوان الداخلي هكذا: " الأسوار00 لحظات مصيرية".
وترجع قيمة العنوان المصاحب إلى كونه مؤشرا على قيمة الزمان " اللحظة " داخل المكان "المعتقل " الذي يحجب بأسواره أنوار الحرية عن النزلاء ، هذا إلى دلالته الزمنية على قيمة اللحظة في تحديد مصائر أولئك النزلاء الذين يقبعون خلف الأسوار . لقد فقدت السنون والشهور والأيام والساعات والدقائق معانيها خلف الأسوار ، وأصبح الزمن فى حياة النزلاء يقاس باللحظة وما يصاحبها من تعذيب وعاهات.
إن العنوانين: الرئيس " الأسوار" ، والمصاحب " لحظات مصيرية" يؤسسان عقد القراءة بين الكاتب والمتلقي، وبتأثيرهما يكيف القارئ قراءته للنص (6) وتأخذ توقعاته في التشكل عمن سوف يلتقي بهم داخل الأسوار من شخصيات تمارس القمع، وأخرى مقموعة ، فيها المتسلق والانتهازي والخائن، وفيها المقاوم الذي لا ينال من ثباته ترغيب أو ترهيب، فيها اللص والظالم والمظلوم ،فيها أحلام الحرية التي تخبو تحت تأثير الهوان واليأس، ثم لا تلبث أن تشرق من جديد.
يشكل العنوان " الأسوار00 لحظات مصيرية " أفق التوقع لدى القارئ، ويحرضه على ارتقاب نهاية بعينها، كالإفراج عن المعتقلين، أو تحطيم الأسوار، أو فضح الخائنين والانتهازيين والمنحرفين،أو شفاء النفوس من أدوائها،أو تعزيز ثقة الشخوص في ملكاتهم،إلى غير ذلك من النهايات التي تغرى باستمرار فعل القراءة ليكتشف القارئ- عند عتبات الخروج من النص- مدى صدق أو خيبة توقعاته .
ولئن كان العنوان أول عتبات الرواية فإن الاستهلال يمثل العتبة الثانية التي لابد للقارئ أن يجتازها. وقد تميز استهلال الأسوار بمباينته لمألوف الاستهلال عند الرواد؛ ذلك أن الكاتب لم يعن في استهلاله بوصف أحد مناظر الطبيعة، أو بوصف مفردات المكان" المعتقل" الذي جرت على أرضه أكثر الأحداث، أو بوصف الشخصيات من الخارج، وإنما جاء الاستهلال مؤلفا من عنصرين:
العنصر الأول : خمسة نصوص استدعاها الكاتب من مصادر عديدة، عزا أولها إلى المسعودي ، والثاني إلى مصدر وصفه بكونه مكتوبا في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس ، في حين جاء الاقتباس الثالث معزوا إلى الوصايا العشر، وجاء الرابع معزوا إلى" قانون العقيدة المسيحية"، أما الخامس فمأخوذ من سورة الإخلاص (7) 0
وهذه الاقتباسات تباغت القارىء بما لم يكن يتوقعه،وتدفعه دفعا إلى التخلي عن الموروث من تقاليد القراءة، وإلى التحلي بالقدرة على الملاحظة الدقيقة حتى يعرف النواتج الدلالية الكامنة في أحشاء هذه الاقتباسات، وعلاقتها بالأسوار ومضمونها وشخوصها .
والعنصر الآخر، غير المألوف، في عتبات الدخول، هو مقطع حواري يستغرق زهاء صفحتين ، ويدور بين سبع من شخصيات الرواية هم: الأستاذ، أنور عبد الحفيظ، وهيب تادرس، على الشامي، خليل عبد النبي، أمين سالم، ثم بيومي الدكر.
إن استهلال الأسوار بمقطع حواري لا يباين مألوف الاستهــــلال
السردي فحسب، بل يكشف عن نزوع محمد جبريل إلى إضفاء أكبر قدر من التركيز على روايته ،مستفيدا في ذلك بأحد تقاليد الإبداع المسرحي؛ أعنـى الانطلاق مـن نقطة التـأزم وإهمـال ما سواها. ومعروف أن كتاب المسرح درجوا على بدء الحدث الدرامي من نقطة التأزم ( التي تضفى على المسرحية مقروءة أو معروضة قدرا كبيرا من التركيز الملائم لطبيعة هذا الجنس الأدبى . هذه ملاحظة.
ملاحظة ثانية: أن تركيز محمد جبريل، في المقطع الحواري ،على فكرة جوهرية كالخيانة، هيأ له أن يسيطر على المتلقي، و أن يفعمه توقا إلى معرفة الخائن، وبواعث خيانته، والمصير الذي ينتظره. وبدهي أن القارىء الذي يفتح عينيه على موقف مغلف بالأسرار والألغاز، يجد نفسه مسوقا بدافع غريزي إلى شق الحجب وهتك الأسرار .(9)
ملاحظة أخيرة : أن القرعة ، وهى الفكرة الجوهرية التى كشف الكاتب من خلالها معادن النفوس ، كانت فكرة نبيلة توحدت حولها كلمة النزلاء، وبدا واضحا أن كل نزيل مستعد لإحراق نفسه، متى أصابته نتيجة القرعة؛ ليكون في موته حرقا خلاص للآخرين مما هم فيه من هوان، لكن هذه الفكرة النبيلة أفرغتها إدارة المعتقل من قيمتها، حين جندت أحد النزلاء(حلمي عزت) وأوعزت إليه أن يطوى جميع أوراق القرعة على اسم الأستاذ !
ولما اكتشف أصدقاء الأستاذ هذه المؤامرة أصبحوا مؤرقين لا بإنقاذ حياة أستاذهم فحسب ،بل بمعرفة الخائن وفضحه 0هكذا أصبحت الخيانة تهمة تلاحق النزلاء- ما عدا الأستاذ بداهة- وهكذا اجتمعت كلمة النزلاء على القرعة، ثم زعزعت نتيجتها إرادتهم .
وإذا كانت البداية تمثل عتبة الدخول إلى الأسوار، فإن النهاية تعد عتبة الخروج منها، وكما جاءت البداية غير تقليدية، جاءت النهاية عتبة غير تقليدية،إذ خيبت توقعات المتلقي؛حيث ظل المعتقل باقيا وكأنما هو شاهد على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وظل المعتقلون خلف الأسوار0لقد أنهى محمد جبريل روايته بعد أن تحررت نفوس المعتقلين من الخوف، وارتفعت أصواتهم بالسؤال الذي هو أصل الوعي، كما ارتفعت حناجرهم بالاحتجاج على أوضاع لم يكن أحدهم يجرؤ على الحديث عنها همسا0 ولا شك في قيمة هذه المكاسب وإن بدت أقل بكثير من تضحيات النزلاء وتوقعات المتلقي0
وإذا كانت عتبة الخروج تنهى أحداث الرواية على الورق، فإنها تبقي الأحداث حية في عقل القارىء ، قابلة للتأويل. يظل القارىء مؤرقا بالسؤال الذي طرحته الرواية قبل نحو ثلاثة أسطرمن نهايتها، وهو: ماذا لو يصبح الفداء بلا خلاص؟ إنه سؤال مبطن بالشك؛ فكـل الاحتـمالات واردة: قـد يحـرق مـن تصـيبه القـرعـة بنتيجتها نفـسه ثـم يظـل الـنزلاء قـابعـين خـلـف الأسوار! و قد تطل الخيانة برأسها القبيح لتبدد إجماع النزلاء، وتعود السلطة إلى التنكيل بهم. كل هذا تزرعه عتبة الخروج في عقل القارئ، برغم حرص السارد على أن يشير، في آخر سطر من الرواية، إلى الزبالة المضيئة التي تأبى إلا أن تقاوم الظلام مؤكدة أنه وإن لم يكن ثمة يقين من عودة النزلاء إلى حياتهم العادية ، فإن هناك بصيصا من أمل يقترب، وأن جيوش الظلام لم تستطع إطفاء الأضواء الواهنة المنبعثة من الزبالة.
3– الشخوص :
تضم الأسوار أكثر من خمسين شخصية بينهم القواد:" على الشامي"، البلطجي:" محمد توفيق"، الغشاش:" خليل عبد النبي"،القاتل : " توفيق عزوز" ، تاجر المخدرات:" أمين سالم"، مروج الشائعات: " سلامة القاضي"، من ضيعته الوشاية:" أحمد حسنين"، السياسي: " شاكر الملواني"، المثالي:" الأستاذ "،الخائن: "حلمي عزت"، طالب الطب: " وهيب تادرس ". وهناك رجال الشرطة، كالمأمور، الصول سعيد، وحراس المعتقل.
وواضح أن طبيعة المكان تحكمت في اختيار معظم شخوص الرواية؛ ففي مكان كالمعتقل لن يلتقي القارىء بالزهاد والنساك والصالحين، بل البدهى أن يلتقي بمن انحرفت خطاهم عن الجادة، أومن كانوا مناضلين أصلاء، أو ضحايا وشايات كاذبة. نعم يلتقي القارئ بشخصية زاهدة، لكنه يلتقيها غير بعيد من أسوار المعتقل.
ومن المؤكد أن ازدحام الأسوار بعدد كبير من الشخوص ألجأ الكاتب إلى حجب كثير من الملامح الخارجية المميزة لكل شخصية على حدة، وإن أسند- في أحوال نادرة -إلى السارد وبعض الشخوص،مهمة تزويدنا بإشارات مختصرة تصف جانبا من الهيئة الخارجية للشخصية، كالإشارة إلى تميز الأستاذ بالهدوء الحاسم(10)، والفم الرقيق (11) والنظرات الحانية (12) وهى إشارات تفسر نسبيا استيلاءه على قلوب النزلاء.
وثمة إشارات ترسم جانبا من ملامح الصول سعيد، جاءتنا عبر أقوال السارد وانطباعات النزلاء لنعرف منها أن للصول سعيد جسدا عملاقا (13)، وقامة هائلة (14)، ونظرات قاسية (15) ،وشاربا تغوص فيه الشفتان (16). وهذه الملامح تتسق مع ما أبداه من قدرة غير عادية، على إذلال النزلاء وترويعهم في لــذة لا يمكـن تفسـيرها إلا فـي ضـوء مقـولات عـلـم النفـس عـن الشخصية السادية.
ولتقديم شخوص الأسوار آثر محمد جبريل الأسلوب التصويري على الأسلوبين الاستبطاني (17) والتقريري (1،وهو أسلوب هيأ له أن يقدم الشخصية من خلال أقوالها وأفعالها وصراعها سواء مع نفسها أو مع غيرها، وأن يدعها تنمو من خلال نمو الوقائع (19) وأن يحرر - فى الوقت نفسه - المتلقي من النظرة الأحادية للسارد بحيث يرى الشخصية فى مرايا عديدة ، بدلا من الاقتصار على رؤيتها فى مرآة السارد . إن شخصية الأستاذ تطل على المتلقي من المرايا التالية:
(يتبع)
...........................................
(1) انظر ، محمد جبريل ، الأسوار ، ص 107 ، ط: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1973 م
(2) السابق ، ص 17 ، 24 ، 45 ، 73 ، 101 .
(3) نفسه ، ص 87 .
(4) انظر ، د. حامد أبو أحمد ، مسيرة الرواية فى مصر ، ص69 ، ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2000 م .
(5) الأسوار ، ص 61 .
(6) انظر ، حميد لحمدانى ، عتبات النص السردى ، علامات ، (دورية يصدرها النادى الأدبى الثقافى بجدة ) العدد 12 ، شوال 1423 هـ ، ديسمبر 2002 م ، ص 32: 39.
(7) انظر ، الأسوار ، ص 9 : 10 .
( 8 ) انظر ، د. رشاد رشدى ، فن كتابة المسرحية ، ص 42 : 43 ، ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1998 م .
(9) د. محمد يوسف نجم ، فن القصة ، ص 34 ، ط : الأولى ، دار صادر ، بيروت ، دار الشرق ، عمان ، 1996 م .
(10) انظر ، الأسوار ، ص 11 ، ص 71 .
(11) السابق ، ص 11 ، ص 69 .
(12) نفسه ، ص 26 .
(13) نفسه ، ص 4 .
(14) نفسه ، ص 89 .
(15) نفسه ، ص 80 .
(16) نفسه ، ص 80 .
(17) الأسلوب الاستبطانى يصور العالم الداخلى للشخصية دون تدخل ظاهر من الروائى . وهناك نقاد يسمونه تيار الوعى أو تيار الشعور . انظر ، د. صلاح فضل ، منهج الواقعية فى الإبداع الأدبى ،ص 103 ، ط : الثالثة، دار الأفاق الجديدة ،بيروت 1406 هـ- 1986 م . د. طه وادى ، دراسات فى نقد الرواية ، ص 43 ، ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1989 م. رينيه ويلك ، اوستن وارين ، نظرية الأدب ، ص 235 ، ترجمة : د.محيى الدين صبحى ، ط : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 1987م .
(18) الأسلوب التقريرى يقوم فيه المؤلف وسارده بتقديم الشخصية واصفا أحوالها وأفكارها=
= ومشاعرها منذ بداية الحدث . ويتم الإخبار عن الشخصية بصيغة الماضى . ومن النقاد من يسميه " التقديم السردى " . ويسميه رينيه ويلك وأوستن وارين : التشخصيات السكونية . انظر ، د. أنجيل بطرس سمعان ، دراسات فى الرواية العربية ، ص 109 ، ط : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1987 م . رينيه ويلك ، أوستن وارين ، نظرية الأدب ، ص 229 0
- لمزيد من التفاصيل حول الأسلوب التصويرى فى تقديم الشخصية الروائية ، انظر ، د.عبد المحسن طه بدر ، نجيب محفوظ : الرؤية والأداة ، ص 430 : 433 ، ط : دار الثقافة للطباعة والنشر ، القاهرة ، د - ت .
(19) الأسوار ، ص 24 .
(يتبع)