لست الوحيد
-" أين كنت؟ أين ؟
هكذا - كمن لا ينتظر جوابا - ، خاطب"بوجمعة" زوجته التي تفاجأت و هي تظنّ أنّ السؤال يعنيها، بعد عودته إلى بيته في آخر النهار. لم يمهلها لحظة كي تسترجع أنفاسها من المفاجأة، أو لتسأله عن سبب تأخّره غير المعتاد، بمجرّد أن دفعه الباب، ارتمى بجثّته المترنّحة على الأريكة التي أنّّّّت كأنما تكسّر أحد أضلاعها، و بادرها بما اكتشفه عن شهرته التي بلغت أكابر المدينة، ثمّ أخذ يشرح لها ما توهّم عن قيمته الحقيقية النابعة من عبقرية نائمة في داخله منذ أعوام و أعوام.
و سرعان ما انتابه شعور باحتقار مركزه المتواضع الذي يحتلّه إلى غاية اليوم في المجتمع كتاجر، و نما إلى جانبه إحساس بحتمية تطليقه، مركز يعبّر عنه عند العامّة بقولهم : " حدّه حدّ روحه": فهو مجرّد بقّال صغير، ورث عن والده متجرا متواضعا، و هو ما اضطرّه إلى الانقطاع عن مواصلة دراسته دون أن يكمل الطور الأساسي، إلاّ أنّه يحسن إجراء العمليات الأربع، و هذا زاد معرفيّ، كان يراه كافيا لإدارة دكّان صغير. و الدكّان يتوسّط حيّا شعبيا يتكدّس فيه السكّان تكديسا، تكاد تستغيث منه الشّقق التي لم تّعد تتحمّل ضغط العائلات الولود. و هؤلاء السكان هم زبائنه الذين يجتهد كلّ الاجتهاد في خدمتهم ليلبّي لهم احتياجاتهم اليوميّة من الموادّ الغذائية العامّة.
أمّا زوجته التي تنتظر عن قريب، مولودها الأوّل، فلا تحظى بنصيبها من وقته سوى ببضع دقائق يقضيها أمامها حينما تحطّ بين يديه طعام العشاء، و بعدها يسقط كالصخرة على الفراش إلى أن ينهض في صباح يوم جديد، و يتناول فطوره و هو يستعجلها لكي تحضّر له طعام الغداء الذي يزدرده في الدكّان، لأنّه لا يغلق في وسط النهار، عملا بتوصية والده الذي كان يقول له أنّه، أي منتصف النهار، أفضل الأوقات التي تدرّ الأرباح.
و مضت سنوات و حياته تسير بهذه الرتابة التي ألفها، و لم يشعر يوما بما يدعو لتغيير حاله، بل أحبّ حياته تلك، و أفرغ لها نفسه إفراغا كاملا، وأما أشدّ ما كان يكره، فهو أن يأتي عنده ضيف من أهله أو من أهل زوجته، فيضطرّه الحال إلى إغلاق دكّانه قبل أوان الغلق، أو فتحه متأخّرا عن المعتاد، و لأجل ذلك، قاطعوه بعدما شعروا بثقلهم عليه، و لكن لم يكن ذلك مما يكترث له أو يشغل باله."
ـــ ماذا جرى لعقلك يا رجل؟ قالت له زوجته التي لم تهضم شيئا من حديثه المبتدع.
ـــ من اليوم فصاعدا.. أنا " سي بوجمعة " فهمت؟ قال لها بنوع من الحدّة.
ـــ فهمت، يا سي بوجمعة، و لكن ما لم أفهمه هو هذا الذي جرى لعقلك بين يوم وليلة.. كنت أنتظر أن تسألني عن حال ابنك الذي بدأ يعلن عن قدومه و ...قاطعها كمن يريد أن يجعل حدّا لأغنية ملّ تكرارها، أو ليختصر لها المستقبل الزّاهر الذي ينتظره و ابنه القادم قائلا :
ــــ ابنك سيكون في أحسن ما يكون أولاد الأكابر و الأعيان.. لا تخافي. و أضاف بشيء من الكبرياء و الفخر و الاعتزاز:
ــــ ..و زوجك، الذي هو أنا.. صار رجلا مهمّا يا امرأة.. هل تفهمين.. رجلا مهمّا. أكّد لها في النهاية.
و الرجل، صارت الدنيا لا تسعه.. وضع نفسه في حجم غير طبيعيّ فتقزّم كل من حوله، و نشط فجأة، عقله الخامل ، فصوّر له خياله الجنّة و العلياء، و رأى نفسه في المرتبة التي لم تخطر بباله يوما و لا جرت على لسانه و لو كان ذلك على سبيل الصدفة أو الخطأ.
قال في نفسه بثقة و زهو، و عيناه تطويان الأيّام المستقبلية بنهم منقطع النظير:" لِمَ لا؟ ما الذي ينقصني؟ و فيمَ يزيد عنّي الآخرون ؟لست أقلّ شأنا منهم".
و كلّ هذا، حدث له مساء اليوم، حينما توقّفت أمام دكاّنه سيّارة فخمة سوداء لامعة من نوع "المرسيدس" ، خرج من جوفها ثلاثة رجال ملمّعي الأحذية، عليهم بدلات بلون اللّيل، حيّوه ثمّ طبعوا قبلات فاترة بأحناكهم المترهّلة، على خدّيه الأحر شين، و طلبوا منه أن يغلق دكّانه ليفتحوا معه أبواب حديث جعله يعيش في الحلم الذي لم يحلم به قبل ذلك المساء.
" الرجل أضحى مسئولا كبيرا.. "ميرا"* أو بعض "مير" ، و الدكاّن تحوّل إلى مساحة كبرى، و الشقّة الضيّقة التي أوته منذ ولادته، غدت قصرا مترامي الأطراف، و هذه سيّارة باريسيّة، بل سيّارات من آخر الأطرزة التي أفرزتها المصانع الفرنسيّة، تزيّن مدخل بيته الجديد، و ذاك مكتب بكاتبات متأنّقات في ذهاب و إياب، و حاجب أمين يحرس بابه،و تلك هيبة يتزلّف حولها المتزلّفون و ...و..
و أردفت زوجته التي أدركت حقيقة الأمر قائلة:
ـــ من الأفضل أن تذهب لتنام.. و أضافت بشيء من التهكّم:
ـــ .. أنت.. بوجمعة البقّال.. "مير" المدينة؟.. إنّهم يضحكون عليك.. ما هؤلاء إلاّ جماعة من المحتالين المحترفين، يريدون استغلال الأموال التي تنام عليها..
و كمن أهين في كرامته أو طعن في شرفه، انتفض في مجلسه مزمجرا، في الوقت الذي ارتطمت كفّه الخشنة بخدّ المسكينة زوجته، قال بحزم::
ـــ اسكتي يا جاهلة.. اسكتي.. و اخرجي من حياتي.. أنت طالق.. طالق..
و بهدوء امرأة تتهيّأ لتصبح أمّا، بلعت غيظها و مسحت دمعة فلتت من صبرها و نظرت في الذي كان قبل حين زوجها، ثمّ قالت:
ـــ لست الوحيد.. "عيشة الخدّامة" عرفت مصيرها مذ ركبك الغرور..