حالنا والعيدابتسمَتْ شَمسُ صباح ذلك العيد بإشراقه صغيرة.. وكأنها تصطنع الابتسام أمام يوم عيد قد يمر كئيبا كسابقيه.. وحين نظرت من النافذة إلى الشارع القصير أمام البيت وجدت الطريق خاوية من المارة الذاهبين لعملهم.. فقد كان اليوم عطلة وإخواننا في الدين والطين لا بد وأن أغلبهم يعيشون فرحة عيد الأضحى بقلوب تصطنع هي الأخرى الفرح أمام ما تعيشه أمة محمد صلى الله عليه وسلم اليوم من ذل انسكب مداد كلماته المدونة حياءا من صفحات تاريخها المشرق نورا وفتحا مبينا.. استغنيت عن وجبة الفطور وحيدة دون إخوتي فأغلبهم قد تبرمج على عدم الاستيقاظ باكرا نظرا لتيار البطالة الذي جرفهم في طريقه كما جرف الملايين من شبابنا، ونزلت للعمل في الطابق السفلي من بيتنا.. هناك حيث بعض من الحواسيب مجمعة تنتظر من يثبت عليها برامج المعلوميات ويخلصها من سباتها العميق.. بدأت العمل بنشاط قليل على غير عادتي يرافقني صوت شجي منبعث من الحاسوب لمطرب جادت نفسه بمناجات ملتزمة يقول في مطلعها باللغة العامية :
الله يا الله واسْتَجْبْ يَا ذْلْكْريمْ لِيَّ
وْفِّي طْلْبْتِي وْاكْتْبْ لِي نْمْشِي مْعَ الزِّيَّارْ
نْمْشِي نْزُورْ قَبْرْ الرَّسُولْ الهَاشْمِي بْنْيَّة
مُحَمّْدْ الْحْبِيبْ الْمْعْصُومْ الْهَاشْمِي الْمْخْتَارْ
أخذتني كلمات تلك المناجاة إلى ذلك المقام المقدس متمنية الله أن يجعل كل أرواح المسلمين تحج إلى هناك شيوخا وكهولا وشبابا.. ليطوفوا بالبيت العتيق جنبا إلى جنب وجوارحهم راضية بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.. وليرتووا من ماء زمزم ماءا طاهرا يشفي ما علق في قلوبهم من سقم الدنيا الذي لم يترك بينهم شيئا جميلا إلا ودمره تدميرا.. حتى هانت عليهم الأنفس والحرمات والمساجد..
فجأة سمعت صوت والدي آتٍ من فوق كالطبل المدوي.. وعلمت أن صوته المرتفع يحمل خبرا سيئا قد سمعه من إذاعة الراديو.. صعدت الدرج مسرعة ليخبرني كما إخوتي بخبر إعدام الرئيس السابق "صدام حسين" مع ساعات الصباح الأولى.. خطونا بسرعة ناحية التلفاز لتشغيله ووجدنا الخبر مكتوبا على اللائحة الرقمية للأخبار على كل القنوات الفضائية الإخبارية..
تسمرنا مكاننا لحظات طويلة وعيوننا جاحظة نحو التلفاز وكأننا ننتظر أن تكتب على الشاشة كلمات تكذب الخبر أو تشكك في مصداقيته حتى.. ليكتب بعدها أنه سيتم نقل الحدث بالصوت والصورة على كل القنوات الفضائية..!!
أشحت بوجهي عن التلفاز رافضة رؤية تلك المهزلة.. ونزلت الدرج بخطوات متثاقلة.. رغم توقعاتنا السابقة بما قد يحدث كنهاية لحياة واحد من حكامنا الذين أنَّ لهم كرسي الحكم من كثرة جلوسهم عليه.. والذي ما اكثر ما سمعنا أنين شعبه المسلم قبل أن يكشر له القدر عن أنيابه ويسقط شعبه فريسة الأطماع الأمريكية بأرضه.. إلا أنه ولا أحد منا توقع أن تتزامن هذه النهاية وعيد الأضحى المبارك.. وكانت فعلا نهاية ورسالة من العيار الثقيل جدا..
مر الوقت بطيئا على غير عادته في الساعات التالية التي تلت الحدث المستهجن وكأنه قد قرر الإبطاء من سرعته عسى أن يستفيق الكل من سباته العميق قبل أن تتوقف ساعة الزمن عن الدوران..
عاودت العمل بعقل غائب وقلب زاده الحدث المستهجن ألما آخر فوق آلامه التي ألف الإحساس بسكاكينها كلما رأيت أشلاء إخوتي ملقاة في الشوارع ووصل إلى مسمعي صرخات نسائهم الثكلى ودموع بناتهم المغتصبات وشاهدت جثت أطفالهم الأبرياء..
دقت الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم الكئيب وارتفع معها صوت أحد المارة مخبرا صديقه بغلاء سعر كبش العيد هذا العام وأنه لن يستطيع شراءه كاملا بصوفه وقرونه.. تطلعت من النافذة فوجدت الطريق قد امتلأت بالمارة رجالا ونساء مسرعي الخطى كل إلى وجهة يريدها لغرض في نفسه..
نظرت إلى العمل المتبقي بعين تريد استبدال منظر الحواسيب المجمدة والخروج لرؤية ما عليه حال الناس بعد مشاهدتهم المباشرة لواحد من حكامهم وهو يقدم للشنق في يوم عيد.. خرجت للشارع بأعين تستطلع وقع الحدث على وجوه الناس لمعرفة إن كانوا يحسون بما يجري من حولهم على الأقل.. وجدت بعض من الرجال يصطحبون نساءهم للسوق القريب لاختيار كبش العيد.. وآخرون عائدون وأكباشهم معهم لا يسمع لها صوت وكأنها لم تعد تحس أنها أضحية العيد الوحيدة كعادتها.. فقد أصبح رأس المسلم يقدم كبشا للفداء شنقا قبل موعد ذبحها.. ورأيت ثلاثة من الشباب مجتمعين في قارعة الطريق يتحدثون عن وقت تزامن السنة الميلادية الجديدة وعيد الأضحى..
عافت نفسي السير في طريق الاستطلاع أكثر وأردت العودة للعمل أحسن.. فجأة شاهدت أحد الشيوخ يضرب بعكازه على الأرض وهو يحدث جليسه على الكرسي المتحرك.. مررت بالقرب منهما عسى أن تلتقط أذناي بعضا من الحديث الحماسي.. وكانت هذه الجملة باللغة العامية:
"أَخُويَا كُونْ كْنَّا كُلْنّا مْسْلْمِينْ حْقَاقْ..
رْبِّي غَادِي يْحْكّْمْ عْلِينَا مَا حْسْنْ مْنَّا.. وْحِيثْ حْنَا مْسْلْمِينْ مْزْوْرِينْ..
تَيْحْكْمُوا فِينَا دَابَا وْحْدِينْ عْرْ مْنَّا فْالْقْلْبْ وْالْعْقْلْ..
وْجَابْ لِيهُمْ الله وْلِينَا اللِّي يْعْذّْبْنَا فْالدّْنْيَا وْالنَّاسْ تْشُوفْ..
وْدَابَا تْشْنْقْ مْنْهُمْ الْوّْلْ فْالْعِيدْ الْكْبِيرْ،
وْقْبْلْ مَا يْتّْذْبْحْ الْحَوْلِي وْمَنْعْرْفْ وَاشْ غَادِي يْتّْشْنْقْ الثَّانِي قْبْلْ وْلاَ بْعْدْ مَا يْتّْذْبْحْ الْحَوْلِي...."
وكأن هذه الكلمات قد منعت رغبة الاستطلاع عندي لأعود أدراجي إلى العمل وكلمات الشيخ ترن في أذني.. والتي لخص بها ما حدث للرئيس "صدام حسين" وسبب حدوته وما سيحدث بعده إن لم نتدارك أنفسنا عن السقوط في الهاوية أكثر..
كلماتك أيها الشيخ الحماسي كنت تقصد بها ما معناه باللغة العربية :
"يا أخي.. لو كنا جميعا مسلمين بحق.. سيُحكم الله فينا من هو أحسن منا.. ولأننا مسلمين مزوَّرين فالله يحكم فينا الآن من هم أسوأ منا قلبا وعقلا.. وقد سلط عليهم وعلينا من يسموننا العذاب في الدنيا على مرأى من الناس.. وقد شنق منهم الأول في عيد الأضحى قبل أن يذبح الكبش.. ولا نعرف هل سيشنق الثاني قبل أن يذبح الكبش أم بعده.."
مرت ساعات باقي ذلك اليوم بطيئة بطء السلحفاة.. اتصلت فيها على الشبكة مع بعض المعارف والأصدقاء من كل بلد.. ومر أغلب الحديث الإلكتروني عن الحدث المستهجن والمهين لنا كمسلمين وعرب.. واستطعت إفراغ ما في قلبي على الأقل حروفا على لوحة المفاتيح التي طمست حروفها المنقوشة عليها من كثرة الاستعمال..
أتى ليل ذلك النهار الطويل ليضفي بعضا من سواده على سواد يومنا فتركت العمل وذهبت للمنزل طامعة في راحة لنفسي المتعبة.. وجدت أخي يشاهد إحدى القنوات الفضائية العراقية (..) جلست أشاهد أولئك المقاومين العراقيين وبطولاتهم في الدفاع عن لحمهم وعرضهم أمام شهوات بوش الدموية وشهوات جيشه..، وشهوات شعبه البترولية.. وسكنت النفس قليلا لما تفعله أيدي المقاومين بذلك الجيش الأمريكي المنفوخ العقل والساعد..
جلبني حب الاستطلاع ثانية عبر القنوات الفضائية.. أردت بذلك معرفة ما يقوله الإعلاميون في ذلك اليوم المهين على شاشات التلفزة التي سكنوها أكثر ما يسكنون بيوتهم وبدون فائدة تذكر.. فوجدت بعضا من القنوات تتحدث عن الحدث المستهجن بسطحية لا تعني سوى : "نحن نأسف لما يحصل ببلد العراق الشقيق".. ووجدت قنوات تستعرض مطربين ينعقون بكلمات لا تستسيغها حتى آذان القرود صحبة راقصات تتلوى أجسادهن على نغمات الموسيقى الصاخبة كما الأفاعي.. ووجدت قنوات تستعرض أفلاما هوليودية وكأننا لم نكتف من الأمريكان رغم مجيئهم إلى ديارنا ومزاحمتهم لنا في الطرقات.. وأخرى تستعرض أفلاما مكسيكية لا تتحدث سوى عن فقدان البطل أو البطلة لذاكرتهما.. ووجدت من يستعرض فتاوي العلماء في أحكام النساء ويترك فتاوى لأهم القضايا عالقة إلى يوم قد لا تطلع عليه شمس.. ووجدت.. ووجدت..
نهضت من مكاني وتركت حب الاستطلاع على القنوات الفضائية بقلب يكرر ما قاله الشيخ وهو يضرب عكازه بالأرض وباللغة العامية..