العيد ...وصدّام ..وأشياء أخرى .
بقلم : يوسف الديك
ها هو عيد الأضحى يطل علينا برأسه من كوّة في جدار مهدّم ، بكل ما تحمل أعياد الأمّة منذ نصف قرنٍ من آلامٍ وحسرات ، كثيرون يحقّ لهم الفرحَ في العيد ..ولكن تُسرق أفراحهم كلّ مرة كما تَسرق مهرجانات الخطابة عرسَ الشهيد ، تنتابني مع كلِّ عيد حالةٌ من القشعريرة لا أجد ما يفسرها بين القواميس .. يأسٌ وإحباطٌ وحزنٌ وعجزْ ،يصل حدّ البكاء المرّ مع أول كلمة " عيد سعيد " في الصباح ...منذ زمن بعيد وأنا أتجنبها من أيّ كان ..وكل من خبرني عبر السنوات الماضية يعرف أنّي لا أردّ على مكالمات الأصدقاء ورسائلهم الجوّالة..الذين ينسون الرقم طيلة أيام السنة ويجلسون صباح العيد ليستعيدوا ذاكراتهم المثقوبة برقمي وعشرات الأرقام الأخرى ..فهؤلاء لا تعنيني كلماتهم الجافّة ..وأعصابهم المبرّدة ..ولغتهم الخارجة عن حدود الحسّ والحرارة والدفء .. كلمات أقلّ ما يمكن أن أصفها به أنها تضيف لبلادة العيد بلادات مقزّزة ...بعضهم أقلع عن عادته السيئة وعرف أنني خارج المنظور الكوني للمجاملات التافهة ولم يعد يتصّل ..أو يرسل رسالةً نصيّة كررها لسبعين شخصاً من قبل ومن بعد ...حتى فقدَت كل مضامينها ..وجوهر ما عناه أول كاتب لها ..، قبل قليل وصلتني واحدة من صديق يقيم في الكويت ..قرأت أول جملة منها ..وبسبب خلل ما ..جاءت عبارة " جزء من النصّ مفقود " شكرت هذا الجزء المفقود كونه أكثر أهمية لدي من الجزء المقروء .. وأغلقت الهاتف ...كيف سأفهمه أنني لم أقراها بسبب عدم الرغية أو الخلل ،..وبأية لغة يمكن أن أشرح له أن هذا العيد ربما يعني أي مواطن في الموزمبيق أكثر ممّا يعنيني .
صدّام حسين ..هل أسلم الداعية " بوش " وجاء يطبق شرع العيد ..فكنت أنت الأضحية ؟وكونه زعيم اكبر دولةٍ غبية في هذا الكون فلا بدّ وان تكون أضحيته بخروف سمين ، ألهذا فقط اختارت أمريكا وأعوانها في العراق أن يكون الإعلان عن إعدامك شنقاً صبيحة عيد الأضحى .. نفّذه العملاء ..فالإعلان وحده يحمل ما لا يحتمل من إهاناتٍ للعراق والأمّة العربية الغافلة الغافية ...أعترف أنني بكيتك عندما قرأت النبأ ..ربّما لأنني ابحث عن سبب للبكاء ..وربّما لأنني أدرك ما يحمل نبأ إعدامك من نوايا تكمن في صدر بوش وبعض أزلامه الذين أعادتهم دبّابته بعد أن فرّوا كالقطط المذعورة من عراق صدّام حسين ..فيما مضى ، أعرفهم جميعاً ..واحداً واحداً ،..أحدهم كان مديراً لإحدى الدوائر الرسمية عام 1993 .. وما أن انتدب ممثلاً للعراق في مهرجان شعري في الأردن ..حتى أعلن عن الحدود أنه انضمّ إلى صفوف " المعارضة " فتبنته أمريكا ..ومنحته حق اللجوء السياسي ...كثيرون مثل هذا المعارض غدروا بالعراق عندما كان يحتاج صبرهم وصمودهم ..وبعد أن امتصّوا آخر شهدٍ يرطّب حلوقهم الجافّة ..،، في العام 1994 دعيت لسهرة تكريم شعرية على هامش مهرجان جرش .. في منزل الشاعر الفلسطيني الراحل ..عبد الرحيم عمر .. كنا قرابة خمسين شاعراً وأديباً ..بعضهم افترش الأرض " ممدوح عدوان " .. ..وبعضهم جلس في الممرّ المؤدي للصالة الكبيرة ..كنت بمصادفةٍ عفوية أجلس قرب الشاعر الراحل الكبير " عبد الوهاب البياتي " تماماً ..أتنشق عطر الشعر وقامة هذا الرجل المعنى ..بعد العشاء ..تناوب الشعراء على إلقاء بعض قصائدهم .قرأ محمد على شمس الدين من لبنان ..وشوقي بزيع ..من لبنان أيضاً ..ويوسف عبد العزيز من الأردن وممدوح عدوان من سوريا ..وعائشة الخواجا الرازم من الأردن ..وقرأت ما تيسر لي من قصائد قصيرة كنت أعمل عليها آنذاك ..من نمط شعر الزنّ ..الهايكو اليابانية .. ، وأثناء ذلك تنبه الراحل أبو جمال " عبد الرحيم عمر " أن بعض الشعراء في الخارج .. من حقنا عليهم أن نسمعهم كما أن من حقّهم علينا أن يستمعوا للبقية ..أحد هؤلاء الذين كانوا في الممر بقصد مسبق ..الشاعر العراقي .. عبد الرزاق عبد الواحد .. ولأن ثمة خصام تاريخي بين البياتي وبينه ..فضّل البقاء بعيداً ..لكن عبد الرحيم عمر ..اصطحبه بيده ودخل الصالة الكبيرة وهو يردّد أبو علي " البياتي " قلبه طيب ..فقال عبد الرزاق ..لا شيء بيني وبينه فهو صديقي وحبيبي ..وجاء بصحبة عبد الرحيم عمر باتجاه البياتي مادّا يده للسلام ..يا الهي ..أذكر هذا المشهد كما لو أنه يحدث أمامي الآن ..حين نهره عبد الوهاب البياتي صارخاً في وجهه..(( انصرف ... إن ملوكاً لا تعنيني مدّت يدها للمصافحة ورفضت ..هل مثلي من يصافح " فأر سفينة " ؟؟..)) اهتزت جدران المكان الصامت على وقع صوت البياتي المزلزل الذي كاد يأتي على أجواء أمسية يفترض أن تكون شاعرية شفّافة ..وأكمل حين أوضح للجميع : ....تعرفون أيّها الأخوة الحضور ماذا أعني بفأر السفينة ..هذا ..الــــ كلب ..كان يعتاش على صدام حسين من عشرات السنين ..وعندما مالت السفينة بالعراق قفز منها كما تفعل الفئران تماماً وجاء إلى الأردن ليشحذ بطانية يستر بها عريه ..ويدخن مارلبورو ..وهو الذي يمتدح صدّام في كل مهرجان بقصائد عديدة،،
وهنا بيت القصيد فيما حدث ..لأن من تخلوا عن صدام تحت الحصار بعد أن فرغت خزائن العراق أو كادت ..لم يتخلوا عنه شرفاً أو معارضة كما يعتقد البعض ..ولكن لأنهم كما وصفهم البياتي .. فئران سفن ..، هؤلاء من سبّبوا الدمار للعراق ..وهم من لمز في قناة أطماع بوش للانقضاض على حضارة عمرها سبعة ألاف سنة ..والتخلّص من صدّام حسين ..وها هم يحاولون إسدال الستارة مستغلين انشغال العالم العربي بعيد الأضحى كي يعدموا صدّام شنقاً ...فأي عراق يرون بعد هذا ...!!؟
نتألمك يا صدّام ...ونبكيك ..ليس كونك قائداً ديمقراطياً ..لأنك لم تكن كذلك وكنت كأي زعيم عربي متسلّط .. .نعم فقد مارست الكثير من البطش والجبروت بوعي وبغير وعي وبأقسى معانيهما ...لكن من ينتقم الآن ليس الشعب العراقي الذي قتلت وسجنت ..بل إنهم أعداء العراق ...وهذا هو الإعدام على خلفية قضية محاولة اغتيالك في الدجيل ..وكل يوم يسقط في العراق مثل العدد الذي قتلت أجهزة نظامك آنذاك ..في الدجيل ..فمن سينفذ الإعدام بالقتلة الجدد ؟؟ كم كلّف بوش العراق ثمناً لإعدامك ..؟ ..وها هي أمريكا والحكومة العراقية المأجورة لإدارة وكالات بوش ورايس وتشيني في مصافي النفط العراقي تجعل منك كبش فداء لتغطية كل عوراتهم التي فضحت سوء نواياهم من قبل الغزو والاحتلال وبعدهما .، لن أنسى لك موقفاً عايشته شخصياُ في مهرجان المربد 1995 ..عندما بثت قناة الشباب التي كان يشرف عليها ابنك " عدي " ..ووقفت بين مجلس قيادة الثورة وصرخت ..فلتقطع هذه اليد " (( رسغك الأيمن كان في قبضتك اليسرى )) ..فلتقطع يد صدام حسين إذا امتدت يوماً لمصافحة أي زعيم صهيوني ..وكنت ترمي بسهام كلماتك باتجاه معاهدات السلام " أوسلو ..و وادي عربة " ، مشيراً إلى أنّك لن تعاهد الصهاينة ..فها هم يقطعون رأسك ثمناً لمثل هذا الموقف الذي لن ننساه ...وهذا ما يكفينا في فلسطين والأردن وسوريا ولبنان والسودان والمغرب ..كي نبكيك بكل أسىً ..ولوعة .. وندعو جميعاً أن تُشلّ كل يد تآمرت عليك وعلى العراق ..وكل لسانٍ نالك بما ليس فيك ...فالموت قدرنا جميعاً ..فكان يمكن لك أن تموت كما يموت البعير ، وكما مات سواك من الزعماء العرب ..بجلطة قلبية حادّة ..أو مرض مستعصٍ ..أو حادث سقوط طائرة ..لكن أن تعقد محكمة أمريكية في بغداد ..وتصدر الحكم بعيداً عن الأدلّة وما يكفي من البيّنات ..ويكون الحاقد رؤوف .. ..وسواه من أقطاب الحكم العميل الجديد من يصدقّون على حكم إعدامك هذا ما يؤلمنا ويبكينا جميعاً ويترك حسرة جارحة في حلوقنا حتى يعود العراق عراقاً كما كان ..
وهذا وحده ما يجرح فينا ما تبقى من عروبة ..، وكبرياء ,, ..فتباً للحقيقة ..وتباً للعراق ..وتباً للعيد ..و سحقاً للعروبة ..وكلّ أكاذيب الزمن الغادر ,,..... بعدك يا صدّام .