ذكريات حاج لم يحج
كان ذلك منذ سنوات ، وكانت هى المرة الأولى التى أذهب فيها لأداء مناسك الحج ، هل تعرف معنى المرة الأولى ؟ ... المرة الأولى دائماً هى أروع وأشجى وأعذب المرات حيث يسبقها الغموض وتكتنفها الرهبة وتخالطها رغبة جارفة فى المعرفة ، ولعل مشاعر المرة الأولى قد ملكت زمام قلب سيدنا آدم عندما نزل إلى الأرض إلا أنها مشاعر أشربت بالندم على خطيئة معصية أوامر الله والأكل من الشجرة المحرمة.
وكذلك كانت مشاعرى فقد أشربت بالندم على خطايا – وليست خطيئة واحدة – أرتكبتها فى رحلة حياتى ، وكان السؤال الذى يطاردنى قبل رحلة الحج هل يغفر الله لى ؟
وفى قلب الطائرة إنكمشت فى مقعدى عندما سمعت صوت المضيفة وهى تعلن أن هناك خمسة ركاب يزيدون عن حمولة الطائرة ، وأن قائد الرحلة سيضطر إلى إنزال العدد الزائد من الحجاج حيث ستحدد لهم شركة الطيران موعداً آخراً للسفر ، وتعجبت آنذاك من فوضى شركات الطيران ، وكان الأمر كأننا نركب أتوبيس يتبع هيئة النقل العام !!! وتعالت صيحات الركاب بالرفض والتهديد إلا أننى ألتزمت الصمت حتى لا يلحظنى أحد ، وكأننى مذنب فر هارباً من جريمته ويخاف أن يطلع عليه الناس ، وكان مما جرى فى خيالى وقتها أن ما يحدث فى الطائرة هو علامة تشير إلى بعض المطرودين من رحمة الله ، لذلك أنتابنى الهلع أن أكون من هؤلاء وتمتمت بالدعاء فى وجل ، وبعد هنيهة سمعت أصوات الركاب تتصاعد فى ترنيمة واحدة بدعاء التلبية ... لبيك اللهم لبيك ... لبيك لا شريك لك لبيك.
وبعد ساعة كاملة تنفست الصعداء عندما أعلنت المضيفة أنه تم حل المشكلة وأن الطائرة على وشك الإقلاع ، وعندما هدأ الخاطر وأرتاح البال إلتفت ذات اليمين فوجدت شاباً وضيئاً دائم الإبتسام يجلس على مقعده ويرتدى ملابس الإحرام وكأنه أحد أولياء الله الصالحين وعرفت بعد ذلك أنه يدعى "حسين القصبجى" ... ووجدتها فرصة لإجراء حوار مع رجل ظننت أنه صاحب خبرة طويلة فى الحج إلا أننى ... ويالعجبى وجدته يزاملنى فى "المرة الأولى" فقلت له ضاحكاً ... هو أنت منهم ... خام مثلى ... فقال بإبتسامة عريضة ... أبداً أنا أتفوق عليك بعمرة أديتها فى رمضان قبل الماضى ... يعنى عندى سابقة ... فعمرة رمضان كالحج ، وأصبح القصبجى رفيقى فى رحلة الحج لم نتفارق بعدها لحظة واحدة.
وبيسر غير مألوف إنتهت إجراءات الدخول إلى جدة وأستقل الحجيج فى رحلتنا حافلتين كبيرتين حيث سار الركب إلى مدينة الأشواق مكة المكرمة ولم نتوقف لحظة عن التلبية والدعاء لله .... لم تكن ألسنتنا فقط هى التى تلبى وتلهج بالدعاء ولكن لأول مرة فى حياتى ألحظ أن قلبى يكاد أن يقفز من مكانه وعندها فقط عرفت معنى الآية الكريمة "وأجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم" وعندما توقفنا هنيهة فى الطريق أوصانى القصبجى بوصية إلتصقت فى ذاكرتى إذ قال لى .. عندما ترى الكعبة لأول مرة توجه إلى الله بالدعاء .. فهذا الدعاء يكون مقبولاً بإذن الله …. وبجانبى كان يجلس رجل عركته الخبرة حيث عرفت أنه حج أكثر من عشرين مرة ... وهو الدكتور محسن أحد مشاهير الأطباء فى مصر وعندما سمع وصية القصبجى قال بخفة ظل ... أحسن دعاء عندما ترى الكعبة هو أن تقول اللهم إجعلنى مستجاب الدعوة ... ثم إدعو الله بعد ذلك ما تشاء.
وإذا كان حج "المرة الأولى" هو أروع المرات فإن رؤية الكعبة فى المرة الأولى هى أشجى المرات فسرعان ما أنتابتنى حالة غريبة من الوجد والشجن ، ورغماً عنى إنسابت دموعى رغم أن الجميع يعرفون أننى "عصى الدمع" ... رؤيتك للكعبة فى المرة الأولى تدخلك فى حالة شعورية فريدة من نوعها لا يستطيع أحد أن يصفها مهما أوتى من بيان ... وقبل بداية طواف القدوم تاه منى حسين القصبجى وسط الزحام فلم أعرف من أين أبدأ ، وكنت قد سألت فى هذا الأمر من قبل وعرفت نظرياً من أين نبدأ الطواف ... وأخيراً إهتديت إلى نقطة البداية ورغم شدة الزحام إلا أننى لم أشعر بأحد حتى أن بعض رفقاء الرحلة الذين تعرفت بهم فى الطائرة وفى الحافلة قابلونى أثناء الطواف إلا أننى كنت أنظر إليهم وكأننى فى إغفاءة فنصفى مستيقظ أم النصف الآخر فهو فى عالم مختلف.
وبعد الطواف كان السعى وعند السعى إستيقظت من حالة الوجد التى كنت فيها وإذا بخواطرى تتعجب من ذلك الصمود وهذا الشموخ الذى كلل السيدة هاجر عند سعيها بين الصفا والمروة.
وعندما ذهبت إلى الفندق الذى يطل على الكعبة المشرفة وجدت فى الإستعلامات خطاباً تركه لى خالى "السيد" وزوجته وكانا قد سبقانى إلى مكة المكرمة بأيام وكنت قد أعلمتهما من قبل باسم الفندق .. ولأسبوع كامل قبل "يوم التروية" السابق على الوقفة إستمتعت بالصلاة فى الحرم المكى ورافقت خالى "السيد" عدة مرات أثناء الصلاة وكنت أعرف أنه رجل "بكاء" سرعان ما تنهمر دموعه إذا ما دخل فى الصلاة وكنت أشفق عليه هو وزوجته من مشقة الحج خاصة وأنه كان قد تجاوز السبعين من عمره ، إلا أننى كنت ألحظ أنه أثناء سيره إلى الحرم المكى كان يسرع الخطى وكأن الله أمده بدفقات من القوة مكافأة له على الطاعة!!! وكنت قد تعرفت أنا وحسين القصبجى على مجموعتين من مجموعات رحلتنا مجموعة يقودها الدكتور محسن ومجموعة يقودها المهندس شريف عفيفى ، وكانت هاتان المجموعتان قد إحترفتا الحج مشياً كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإتفقت أنا والقصبجى على الإنضمام للمهندس شريف عفيفى حيث توجهنا يوم التروية من "مكة" إلى "منى" مشياً على الأقدام وتعجبت من معرفة شريف عفيفى بدروب ومسالك ندر أن يعرفها أحد وكنا نصاحبه وكأنه قصاص أثر ، وعندما وصلنا إلى "منى" توجه بنا قائدنا إلى المخيم الخاص برحلتنا وتقابلنا هناك مع مجموعة الدكتور محسن وكان المخيم شبه خالياً وقد أتيحت لنا الفرصة للإنكباب على القرآن الكريم نتلوه معظم الوقت ثم نتقرب إلى الله بالدعاء فى باقى الأوقات ، وكنت قد اتفقت مع القصبجى على أن نجعل لنا "ورداً" نداوم عليه فى مكة ومنى وعرفات فضلاً عن التلبية وهو "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم".
وكان يوم عرفة من أعظم أيام حياتى إذ توجهنا مشياً من "منى" إلى "عرفات" وأثناء المسير وقع أحدنا من الإعياء وإقتضى الأمر أن نشير – بعد أن قطعنا نصف الطريق – إلى إحدى السيارات الميكروباس وركب القصبجى على سقف السيارة هو وآخرين وتعلقنا أنا وأحد الحجاج ويدعى محمود – وهو بائع سمك بباب الشعرية – فى مؤخرة الميكروباس من الخارج ، ومن شدة التعب لم يستطع محمود التحمل وقال لى خذلتنى يدى وسانزل الآن ولكنى لم أرغب فى تركه وحده فنزلت معه وكنا ننظر إلى القصبجى وهو يركب فوق الميكروباس نظرة حسد إذ قلت له بصوت مرتفع "أيوه يا عم ما أنت ربنا راضى عنك" فقال متضاحكاً "هاتحسدونى على إيه دى الشمس هاتكلنى" ولم تكن هناك سيارات خالية على الإطلاق فكان أن مشيت مسافة مع محمود بائع السمك والذى قال عندما بلغ به التعب مبلغاً "يارب نحن ضيوفك ومن حقنا أن تكرمنا فأنت الكريم" وقبل أن يختم محمود دعاءه إذا بسيارة فارهة يركبها أحد الأشخاص وحده يتوقف عندنا ويقول تفضلا ، والعجيب أن السيارة كانت مكيفة الهواء وكان أحد الهنود الفقراء يسير بجوارنا فرجوت صاحب السيارة أن يركب معنا هذا الهندى الفقير فوافق على الفور ، هل أكرمنا الله بسبب دعاء محمود أم بسبب هذا الهندى الذى كان بجوارنا فى المسير ؟ الله أعلم!!
وكان الجو ممتعاً فى "عرفة" وكنت أسير فى الطرقات وكأننى أطير بجناحين وأستمر قلبى طوال يوم عرفة فى "الخفقان" وأبكانا الشيخ "سالم" والشيخ "محيى" عند الدعاء وقد بكيت كما لم أبك من قبل.
وتسارعت باقى مناسك الحج من "مزدلفة" حيث بتنا مع مجموعة "الحج مشياً" فى العراء وعدنا إلى "منى" فى الصباح وتوجهنا وقت الظهيرة للرجم بصحبة شريف عفيفى الخبير فى الأوقات المناسبة ، إلى طواف الإفاضة والسعى وقضينا باقى الأيام فى "منى" وكانت من أسعد أيام حياتى ، وبعد أن إنتهت فترة بقاءنا فى مكة توجهنا إلى المدينة حيث مسجد وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد رأيت فى الحج أشياءً أعجز عن سردها لذلك سأمسك عن ذكرها ، ورأيت كرامات لأفراد من الناس قد تزدريهم الأعين عند رؤيتهم ، ولكنهم بلغوا عند ربهم منزلة عظيمة – والله أعلم بعباده – ورأيت أيضاً من ذهب إلى الحج متاجراً ومتبضعاً ، ورأيت من أصبح الحج لديه مجرد عادة – وليست عبادة – لا يستطيع تركها ، ورأيت من كان متضجراً من مشقة الحج حتى أن أحدهم أقسم بالله أنه إذا أدى مناسك الحج فإنه لن يعود إلى مكة أبداً.
هذه بعض ذكريات هاجت فى خاطرى عندما رأيت وفود الحجيج تتقاطر على مكة فكاد قلبى ينخلع من مكانه ويذهب معهم ، للدرجة التى ظننت فيها من شدة الأشواق أننى لم أذهب إلى الحج على الإطلاق ... ( اللهم بلغنا حج العام القادم وإجعلنا من زوار المسجد الحرام ومن الطائفين حول الكعبة المكرمة ومن الواقفين على عتبات قبر الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وأحسن خاتمتنا ).
ثروت الخرباوى