سلام اللـه عليك ورحمته وبركاته
تحيـة قطفتُها من حدائق البنفسج
الكريم عبد القادر رابحي،
شكراً لكَ أيّها الشاعر الصادق على هذه الشرفة المزهرة، وبارك بك ربّي وبغيرتك على الشّعر وعالمـه، على الأدب وزمنه الجميل .
توقفتُ كثيراً عند كثيرٍ من النقاط التي أوردتَها، وبردود الأحبّة جميعاً، ولمتُ نفسي لأنّي تأخرتُ عن موكب النقاء هذا، هذا الموكب الذي ينقلنا من عوالم شاحبة إلى أخرى مفتوحة على الشروق .
طرحتَ مجموعةً من الأسئلة في غاية الأهمّية، سأحاول قدر استطاعتي الرّدّ على كل سؤال على حدة . والشكرُ موصول لكَ وللأحبة الذين أثروا الموضوع .
- ما معنى أن يكتب الشّاعر ؟ ماذا يكتب ؟ لمن يكتب ؟
تُحيلنا هذه الأسئلة إلى تساؤلات جان سارتر، حين تساءل: ما الأدب ؟ لمن نكتب ولماذا ؟ وما مدى موقف الكاتب بالعالم المحيط به ؟
وهي تساؤلات لا يمكن أن تختفي من ذهن الشاعر أو الكاتب عموماً، قبلَ عملية الكتابة/ أثناءَها/ وبعدَها، هي أسئلة تظلّ ممتزجةً بأنفاسه، وعلى الدوام .
يكتب لمنْ :
* للأحلامِ التي تشكلّ ألوانَ لوحاته، دواتَه، حبرَه وأنفاسَ أنفاسه !
* للآمال التي تلوّح له من وراء الأفق، حتّى وإن بدا الأفقُ غائماً .
إن لم يكن له رصيدٌ من الأحلام رغمَ المثبّطات والعراقيل التي تكبّل خطوَه، بل وتكسر قلمَه أحياناً، فسينتهي قبلَ أن يبدأ ! رصيدٌ من الأحلام والآمال، رصيدٌ وكبيرٌ من الصبر، رصيدٌ من الإيمان، كل ذلك هو بمثابةِ مخزونٍ مهمّ للشاعر، حتى يستطيع أن يُنتِج، أن يكتب، أن ينسكب حتّى وإن كان ينازع !
* للآخر، لأنّ أيّ نص هو "مكتوب لأجل قارئ"، إضافةً إلى أنّ كل شاعر وهو ينسكب/ وهو يحترق/ وهو يعاني آلامَ المخاض حين يكتب، يضع نُصبَ عينيه المتلقي المثالي الذي سيتلقّى نصّه، ويتفاعل معه، ويقف إلى جواره جنباً إلى جنب، من أجل غرس زمن الإحساس والقيم الجميلة .
* للزمن الجميل، حتّى وإن كان حفلُ قطافـه قد تأخّر .
يكتب لماذا ؟
* ليهَبَ المعاني السامقة روحاً، ليهَبَ للزمن الجميل عمراً، ليدافع عن مبادئَ تعيش فيه ويعيش بها، ليُعيد الثقة إليها، ليحاربَ الزمن المرّ بكل ما استطاع من قوة، أوعلى الأقلّ ليغيّر ولوْ بعضَ ما يشوّه أحلامَ زمنه الجميل الذي ينتظره . وقبلَ كلّ ذلك ومعـه، يكتب من أجل تطهير ذاته من كل قسوةٍ محتملة .
لماذا يكتب أيضاً ؟ يكتب لتنظيم العالم كما قال سارتر، لبناء ثقةٍ بين الكاتب والقارئ، ثقةٍ تحمل وجوديْهما معاً إلى وجودٍ يحترمهما ويحترم وجودَيْهما .
- هل للكتابة تأثير على واقع الشاعر المحيط به بشكل مباشر ؟
الكتابةُ فعلٌ، والتأثّر ردّ فعل ينجم عن العلاقة التي تُبنَى بين الكاتب والقارئ، فإذا لم يحدث تأثّر وتأثير، فإن العمل الأدبي/ القصيد/ النص يكون فاشلاً، لأنّ الرسالة التي أراد بعثَها لم تصل. فالعرب قديماً حين كانوا يكتبون شعراً، كانوا يفعلون ذلك لوجهين: يشبّهون كل شيء ليعجبوا بحسن التشبيه، ولإحداث أمرٍ في النفس يعد به إلى انفعال، حتّى ينحو بما يكتب منحى التعجيب والإغراب كما قال حازم .
إنّ وظيفةَ الشاعر/ الكاتب في تغيير الواقع أو في محاربةِ صوره المشوّهة، لايمكن أن تنجح إلاّ إن كان الصدقُ الملهمَ والمحرّكَ لأحاسيسه وأفكاره، بل والغيمة التي تسقي خطوَه قبلَ أن تسقي حبرَه، ولكننا نجد رغمَ ذلك، رغمَ أنّ الصدق يتأبّط ذراع كثير من الكتّاب والشعراء، فإن رسائلهم/ قصائدهم/ نصوصهم تؤثّر في واقعنا حيناً، وحيناً آخر نراها قد أخفقتْ، رغم أنها لاتخفق البتّة في إضاءة الأمل بداخلنا، في غرس مساحات الصبر والحلم فينا، بل وحراستها من الانطفـاء . ربما لأن التغيير لا يتأتّى دفعةً واحدة، بل يحتاج لاجتياز مراحل وفترات وفصول، تماماً كالنجاح في الحياة .
- هل هناك جدوى من ممارسة الكتابة، وممارسة الشعر خاصةً ؟
بالرغم من أن قطّاع الحلم كثُر، ورغمَ أنّ سارقي الأمل في ازديادٍ مستمرّ كتزايد الآلام والمآسي، فإنّ الكتابة لا يمكنها أن تفقد مصداقيتها ولا قيمتَها ولاغاياتها النبيلة. ربّما يفقد الكاتب / الشاعر – في فترات معيّنة ولأسباب ما- القدرةَ على حراسة الحلم، على إعادة البريق نفسِه للأمل الساكن بأعماقه، ربّما يتعثّر أحياناً حين تتعثّر بداخله خطواتُه، ولكنّ الكتابة أبداً لاتموت ولاتموت غاياتها، لاتفقد "بريقَها" مهما حدث، تبقى هي الحقيقة الراسخة الثابتة وإن تزلزلتْ أشياء كثيرة من حولنا وبداخلنا .
الكتابةُ كائنٌ حيّ يعيش بداخل كلّ كاتب، احتراق، مخاضٌ عسير، يخرج الكاتب / الشاعر منه بصرخةِ الوجود، الكتابة تظلّ هي الأجنحة التي تنقله إلى أوطانٍ زارها وإلى أخرى لم يزرها بعدُ، يتمنى أن يدخلها منتصراً ومعه الزمن الجميل هانئ البال، الكتابة هي الدم الذي يجري في عروقه، هي الحياة التي تُجدّد بداخله فورةَ الحياة إذا هدأتْ بين ضلوعه، هي الورقةَ التي تحمله بين دفّتيْها، فتتحمّله وتتحمّل حكاياه بصبر وصمت.
لايمكن أن نتحدث عن " لا جدوائية" الكتابة، مهما تأخّرتْ بذور التغيير في النموّ، ومهما تعطّلت المراكب التي تحمل القطاف، لأن الكتابةَ قبل أن تكون جسراً بين الكاتب والواقع، فهي جسر بين الكاتب وذاته، هي رسالةٌ يحملها الكاتب لروحه قبل أن يحملها للعالم الآخر، هي تشبه ما تفعله التراجيديا بالمشاعر الإنسانية من عملية تطهيرٍ كلّي لدواخلنا، اكتشافٍ للأماكن القصيّة فينا التي لم نصل إليها بعدُ. ولا يعني أنّ فشل الكتّاب أحياناً في تغيير بعض سمات هذا الزمن المرّ، أنّ العيب فيهمْ أو فيما يكتبون، أو في رحلة الكتابة التي تكبّدوها إلى عوالم الأمل في غدٍ أجملَ، غد تختفي معه الآلام والحروب والمآسي، ويختفي الوجعُ المرير من خارطة العالم .
والشعرُ، هذا الكائنُ الرقيق المشاكس، هذا الطفلُ المشاغب تارةً والحكيم تارةً أخرى، هذا النايُ الذي يعزفُ صاحبَه، فتنعكسُ الألحان على ملامح الواقع كما ينعكس ضوء القمر على صفحات الماء، هذا الكائنُ المسمّى : حياة، ليسَ "أغنية يسلّي الشاعر بها نفسَه" كما قيل على لسان أحد المفكّّرين، بل هو تهذيبٌ للذائقة وللشعور وللعقل، وتعليمٌ و بناءٌ للذات الكاتبة والقارئة على السواء، قبلَ أن يكونَ بناءً لأزمنةِ الخير، لأزمنةٍ يعيش الشاعر من أجلها ومن أجل تحقيقها، سواء عاصرَ تحقَّقَها أم لا، المهمّ أنّ تلك الأزمنةَ واقعٌ متحقّق ولكنّه مؤجَّل، سيكتمل في موعدٍ محدّد يقدّره الرحمن .
كم أتخيّل الشعرَ جالساً قربَ المدفأة، يتدفأ أحياناً بانتصاراته، وأحياناً أخرى يذرف خيباته، وهو يرى نفسَه وفريقَه، تارةً مضمّخينَ بالفوز، وتارةً مضرّجينَ بالخسران ! بيْد أنّ هذا ديدن الحياة، لكنّ الشّعرَ لم يفقد بريقَه ولن يفعل، حتّى وإن علا وجهَه الملائكي بعضُ رماد، أو جرحَ أناملَه الرقيقة وخزٌ ! ما يزال مصرّاً وسيبقى، على مواصلة الرحلة، والغلبةُ بإذن الله ستكون له ولأنصاره !
- هل بقي للشعر قرّاء يؤمنون به، وبدوره في تغيير الواقع بصورة أو بأخرى ؟
الشعرُ يُعمّقُ وعي المتلقّي بالواقع، بكلّ ما فيه من أحداث مؤلمة وآمال مؤجّلة .
لن أنكرَ أنّ المستهزئين بقيمته كثيرون، لن أنكرَ بأنّ المقلّلينَ من شأنه أكثر من أن تعدّهم أصابع اليد، وأولاءِ أشبّههم بمن يحيا بلا روح، بمَن ينكر ضوءَ الشمس وهو يراه بأمّ عينيْه، بمن ينكر شذا الورد، رغم أنه يداعب أنفاسَه ويبعث بروحه الرّوح، بمَن ينادم النجومَ كلّ ليلـة، وهو ينكر بريقَ عيونها ! زمنُنا هذا ليس مثلَ الزمن الذي كان يُنزَّل فيه الشاعرُ منزلة النبي، ينقادون لحكمه جميعاً، ولكنّه أيضاً لم يخلُ من المؤمنين به حدّ التوحّد، المؤمنين بقيمته، بوظيفته، القارئين له بعين القلب، الغافين على كتفه، هم كالعصافير الجميلة تغرّد يوماً بعد يوم وبلا توقّف، لا أتحدث عن أشباه الشعراء بل عن الشعراء الحقيقيين، الذين يكتبون بالصدق وله، يتدفّقون به وله، في كل غرضٍ وفكرة، في كل لوحة وهمسة، وواحتنا خير شاهدٍ على ذلك، هي موطنُهم وميناءٌ أيضاً لمَن لم يفِد بعدُ منهمْ، ميناءٌ ينتظر باقي الوافدين من الشعراء الصادقين إليها ..
لعلّ مشكلَتنا أيها الشاعر الصادق، أنّ التفرّقَ لا يحدث على مستوى الأمّة وحسبُ، بل وعلى مستوى الإبداع أيضاً ! كم من شاعر وناثر يتفيّأون ظلال الصدق والجمال، بعضُهم يوزّع غيماته الممطرةِ نقاءً بعيداً عنّا، وبعضُهم مستسلمٌ لغيماتٍ خرساء، سكنَها حدّ التوحّد حينَ سكنتْه مآسي العالم فأخرستْه !
- هل هي مجرّد تجميل لهزائمنا المختلفة ؟ أم تحمل في طيّاتها مقومات لتغيير ما ؟
لن أخفيكَ، أنّه كثيراً ما كنتُ أسأل نفسي السؤالَ نفسَه، وكدتُ أراها كذلك في لحظاتِ انطفاء البريق فينا، ونحن نرى العالمَ الجميلَ الذي بنيناه بأحلامنا، وسقيناه وهدهدناه، جريحاً ينزفُ بين أيدينا، ونحن نرى الزمنَ المرّ يشتدّ عودُه : حروبٌ ودمارٌ ودماءٌ بريئة تُراق، ومشاعر تُغتال ومبادئ تُطعَن، والقمرُ من جذوة الغضب غائب ! لكنْ لا، لن يكون الشعرُ تجميلاً لهزائمنا المختلفة مهما كانت الرحلة قاسية، مهما كانت الألوان شاحبة والطرقاتُ معتمة إلاّ من طيفِ نور، مهما انطفأت الأحلامُ تترى، فربّما نجد حلماً لم يضعْ في الزحام، حلماً يضيء ما اسودّ من عالمنا، حلماً ولو كان صغيراًً، ينتظرنا عند مفترق الطرق أو عند خطّ الوصول، مُضاءً بقبس الصبر، ببسمةٍ ترمّم ولوْ جزءاً متناثراً من أجزاء عالمنا المرّ !
حديثٌ ذو شجون وربّي ! ليحمِكَ اللـهُ أيها الكريم
شكراً لك واعذرني على الإطالـة
خالص تقديري
وألف طاقة من الورد والندى