علاء عيسى يعزف فى "خيانة" خارج السرب
لا أعتقد أن شعر العامية المصرية قد خرج من معطف الزجل كما يروج البعض – لكنه جاء لظروف تاريخية وأسباب حضارية وفنية على أيدى مجموعة من الموهوبين أمثال فؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودى وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم ونجيب سرور ومجدى نجيب ومحسن الخياط وغيرهم كان مقصوراً على رواد المقاهى من المثقفين ، عجز عن الخروج بقالبه الفنى إلى الجماهير ، ولم يستوعب من حيث الرؤية والأداة التطور التاريخى والحضارى ، ومن ثم تقوقع ، وانحسر ، ويكاد يكون انقرض الآن ، وشيع إلى مثواه الأخير ، وعليه – من الخطأ أن يربط بعض النقاد شعر العامية بالزجل ، ويعتبره البعض امتداداً وتطوراً له ، مثل شعر التفعيلة الذى هو امتداد للشعر العمودى ، وهذا منزلق آخر من مزالق النقاد الذين يربطون ما بين شعر العامية وشعر الفصحى من حيث التطور التاريخى ومن حيث الأدوات الفنية ، وانطلت هذه الخدعة على الشعراء الجدد – وخاصة شعراء العامية ، وراحوا يقلدون شعراء الفصحى ، وواصلوا بقصيدة العامية إلى ما أسموه الآن بـ"قصيدة النثر العامية" تيمناً وتقليداً أعمى لشعراء الفصحى ، وبدلاً من أن يجهد النقاد أنفسهم فى البحث عن جماليات شعر العامية وأدواته ، ونظرياته الخاصة به – يكتفون بتطبيق نظريات الفصحى على العامية – استسهالاً ، وائتناراً بتراث الفصحى الثرى والضخم والمتراكم عبر آلاف ، وأصبحت المسافة واسعة بين جيل الرواد فى العامية وشباب شعراء العامية الجدد والذين هم مسخاً مشوهاً لشعراء الفصحى ، وقليلون جداً هم الذين ينفلتون من هذه الدائرة ، ويعزفون الآن خارج السرب ، ولكنهم للأسف محاصرون ، ولا تجد قصائدهم طريقها إلى النشر فى الصفحات الأدبية التى تسيطر على معظمها متعاطى قصيدة النثر ، وعلاء عيسى واحد من هؤلاء المغيبون ، والمبعدون ، لأنه من جانب يعيش فى أقاليم مصر ، ومن جانب آخر لا يتعاطى قصيدة النثر ، ومن جانب ثالث لا يملك الإرادة الكافية للقتال من أجل إيصال فنه إلى الجماهير وعلاء عيسى فى ديوانه الأخير "خيانة" لا يفقد صلته بالمتلقى ، بل يحرص على التواصل معه من أقرب الطرق وأيسرها ، وهو واحد من الذين يحملون رسالة مثل الشاعر "النبى" ينطلق من رؤية واضحة ، وله فلسفته وأيدولوجيته ، منحاز إلى أبناء جيله وأهله وناسه ، منحاز إلى جموع الناس التى تعانى وتجاهد ، فيختار المواطن المطحون ليكون صوته ، ونبضه ، واحساسه : "الأيام بتجرجر فىَّ / تشد ف شعرى / وبتمسح بىًّ الأرض"
هذا البيت من قصيدة "إوعى تموت" : يلخص موقف الشاعر ورؤيته ، فهنا الإقرار من الشاعر بقسوة الزمن على المواطن العادى ، وسحقه له ، فالأيام تجرجر المواطن العادى البسيط فقط ، وتشد فى شعره ، وتمسح به الأرض ، لاحظ هنا الصورة الشعرية ، وبساطة تركيبها ، ودلالاتها ، وجمالها ، هذا الانسان البسيط "المرمطون" فى يد الزمن ممنوع حتى من الحلم ، فالحلم مقصور على الصفوة : "أحلامهم بس المشروعة / وحلمك مش مشروع" : وإن كان ولابد من الأحلام لهذا المواطن فهى للتنفيس : "أما التنفيذ / ممنوع / منعاً باتاً تتكلم" : وآخر أمانى هذا المواطن أن يحلم جواه : "بقى أخر حلمك تحلم جواك / والحلم خلاااااص !!" فالانسان المستلب حتى من أحلامه يخاطبه علاء متهكماً ، والتهكم والسخرية أداة من أدوات المقاومة عند علاء عيسى كما هى أداة وسلاح المقهورين من أبناء الشعب : "خليك كده .. لابس عباية لانكسار / وادفن مشاعرك / خليك كده جوه الحصار / خليك جبان / واياك تغير موقفك ". وهى دعوة من الشاعر لهذا المواطن بالتحرر من ربق الاستغلال ، ودعوة له بكسر قيد العبودية . ويشغل الفقر مساحة كبيرة من حيز الديوان تكافئ مساحة الفقراء على الأرض والشاعر منحاز لهم بطبعه ، ولنقرأ مثلاً : "إن رحت لقيت القبض / قول ان شالله . إياك تنسى / دوا للبنت . عدى على الدكتور بالمرة / كان بيقول محتاجة أشعة" . . " البنت تقول لك نفسى يا بابا آكل (لحمة) / تضحك طبعاً . جاهلة البنت لو عرفت / إن الكيلو سعره معدى حدود الصبر / كانت تنسى معنى الكلمة" ويقول أيضاً سارداً لمأساة الموظفين والفقراء ومعدداً لمشاكلهم وهمومهم ، واحتياجاتهم اليومية والمعيشية الضرورية : "خلونا نحلم بالرغيف / خلو البيوت مقفولة تحسب دخلها وتوزعه / هايكفى إيه ويكفى مين / ناكل بإيه .. / نشرب بإيه ../ نركب بإيه ../ نلبس بإيه ../ نسكن بإيه .. / وان جينا عزنا نروح لمين / ومنين نجيب سعر الكتب / ومنين نجيب درس العيال / ومنين نجيب الأنسولين ؟ / بقى حالنا يصعب ع اليهود !" ومن الطبيعى أن تشغل السياسة أيضاً حيزاً من مساحة الديوان كما تشغل مساحة من عقل وتفكير الشاعر ، فالأمة العربية منكسرة ، ومنهزمة ، وتعيش أسوأ فترات تاريخها : "وعشان كده / حطوا القواعد عندنا .. / جابوا جنودهم أرضنا .. / الضرب فينا ومننا .. / بقينا أعداء البشر / هما الضحية .. واحنا أصبحنا خطر " . الديوان فى مجمله صرخة من شاعر ومواطن حقيقى ، وكان للأهرام المسائى شرف تقديمه من قبل ، واليوم تحتفى الأهرام المسائى بتجربته الجديدة فى ديوان "خيانة" ونأمل أن نقف فى مقال تال على جماليات وفنيات هذا الديوان . الذى يعزف صاحبه فيه خارج السرب !!
مجدى محمود جعفر
""الشرقية "