أمسكت بقلمي ، نفضت عنه ما علق به من أحبار القص ، لأضعه في مدواة بحر آخر، يستمد منها مداداً جديداً للكلم ؛ فيتحول إلى غواص يسبح بكياناتي إلى أعماق من شعاب ملساء ، تحوم حولها كائنات بألوان زاهية ، أعماق تحتويك للتنزه خلالها دون الحاجة لأجهزة التنفس الاصطناعي ، تشعرك بانسيابية ، ومرونة تسمح لك بالنفاذ من أبوابها المتعددة ، لتجد خلفها عرشاً من الصدف المرصع بالجواهر البحرية ، تتربع عليه المليكة (أسماء حرمة الله ) .
للدخول إلى هذا العالم المتناغم لابد أن نحصل على عدة كروت إلكترونية خضراء ، تفتح لنا أبواب الوصول لهذا العرش ، وهنا أستطيع أن أفك بعض الشفرات المحورية التي صنعت منها هذه الكروت الخضراء ، من خلال عدة نصوص وقع عليها الاختيار :
1- زائرة ( قصيدة )
2- مساءات الزيزفون ( نثر )
3- مذكرات روح ( نثر )
4- طقوس ( نثر )
5- ابتسمي ( نثر )
6- عزف على شفاة الشمس (قصة قصيرة)
أولاً : الوحدة الفكرية :
المقصود بالوحدة الفكرية ، وحدة المنهج التي كست نصوص الكاتبة ، هذه النقطة هي من النقاط الهامة جداً في تكون الشخصية الأدبية ، فنجد الكاتبة نهجت نهجاً إنسانياً خالصاً ، ظهر ذلك جلياً من خلال نصوصها شعراً ، نثراً ، قصاً ، نجدها تعزف دائماً على اللحن الوجودي للإنسان ، تشد هذا الوتر بقوة بينها وبين المقربين إليها من أعضاء النادي البشري (الأب ، الأم ، الأصدقاء ) ، وهذا الملمح من الملامح الصعبة جداً في نهجها ، حيث أنه يرنو للتعرف على النفس من خلال الغير ، فيحتاج جهداً كبيراً من الكاتب لكشف عوالم من حوله ، كي يستطيع أن يضاهي بينه وبين عالمه ، ومن هذه المقارنة تتجلى أمامه ماهيته ، أي أنه يبدأ من خارج الذات ، للوصول إلى الذات .
أمثلة :
تجد هذا الملمح يظهر في قصيدة (زائرة ) : -
لـم تعلمـي أنَّ الجـراحَ موانئـيهنا تجد مشاركة من الكاتبة لمشاعر صديقتها الزائرة ، حتى وإن كانت هذه المشاركة هي مشاعر الحزن .
والدمـع قنديـلٌ يضـيء فضائـي
فإذا فقـدْتِ دليـلَ حزنـكِ، مـرّةً
فتَفَقَّـدي دمـعـاً بـخـدِّ لقـائـي
إنّـي الرفيقـةُ، والأنيـنُ هويّتـي
والصمتُ خلخالي وعِقْـدُ بهائـي
ثانياً : الشعور بالغربة،والحنين :
تجد أن شعور الغربة في نصوص الكاتبة ليس مرضاً نفسياً ، بل هو نوع من أنواع الصحة النفسية للوصول لحالة الاستقرار ، وهذا نابع من عدم القبول المطلق لما حولها من ماهيات ، فلابد وأنم تخضع هذه الماهيات لعملية من التشريح ، والترشيح ، والفلترة ، للوصول إلى ما يتماشى ومفاهيمها ، وثوابتها التي تقتنع بها مسبقاً ، وقد ذكرتني هذه النقطة بنص لأديبنا الكبير الدكتور/ سلطان الحريري بعنوان غربة المثقف ، والذي يتناول الغربة السائدة لمثقفي العصر في ظل التغيرات الحياتية التى تحاصرهم ، والتى تولد نوعاً من الصراع الداخلي لتنقية المتغيرات الحياتية للوصول لتطابق المفاهيم ، وقد نلمس هذه النقطة في نصوص الأديبة بوضوح ، حيث تتعثر بغربتها ووحدتها خلال قراءتك لنصوصها ، فلا يخلو نص لها تقريباً من هذا الملمح .
أمثلة :
أ - نص طقوس :
- الحنين :
(أبيب - قصيدة زائرة :
أتعلمُ، أنني، أشتاقُ لها، شوقَ الأرضِ للمطر، شوقَ المُغتربِ للوطن، شوقَ الوردِ لقطرات الطلّ التي تُحييه؟ لكنني جعلت ُالكتمان لي وتراً، وقريضاً كتبتُه بماء الشؤون ومدادِ الرمّان، أخفيه بأدراجِ القلب، وأجمع لذلكَ كلَّ أحزاني وأشواقي لها، بحقيبةٍ دفنتُها بمدارج الروح..فقط لتظلّ أنتَ دوماً، وطناً للبسمـة والصُّبْــح..)
- الغربة :
مازلتُ أوقِـدُ غربـةً، بطريقتـي !ج- نص مذكرات روح :
أصحـو، فَتُوقَـدُ وحشـةُ الغربـاءِ
- الصراع النفسي :
(ياحروفي المتعَبـة ! لِمَ تصرّين على اعتزالـكِ مدادي ؟ لِمَ تقفينَ كلّ صبـاحٍ، منزويـةً، ترسمينَ على خاصرة الريح لوحاتِ النزف ؟؟أعتقد أن الملمح هنا واضحاً نثراً وشعراً ولا يحتاج إلا توضيح ، فالغربة عندها تكمن في غربة الأهل ، والأصدقاء ، والوطن ، و النفس ، غربة توقدها بطريقتها ، غربة ليست كالغربة بمفهومها المتعارف عليه ، بل هي غربة تشعرها ولا يمكن لغيرها أن يشعرها ، إلا من خلال عبور الأبواب التي تغلق على هذا العرش المرمري .
لِمَ تُقفلينَ عليّ موانئَ الكتابـة، وتتركينَ روحي المضرّجةَ بالبوح، ملقاةً على عتباتِ الصمت، تبعثرُها الريح، فتوزّعها على كلّ أوطان الجوى ؟؟
لِمَ تعتكفينَ بأقصـى غيـاب، كياسمينـةٍ غابَ عنها عطرُها ؟؟! لِمَ تُقسميـنَ على الفتكِ بالأفياءِ والألوان والأحلام ؟؟ دعيها تتنفّسكِ ! ... أمْ أنكِ مثلي ! غابَ عنكِ العبَــقُ، فغابَ الصحوُ والمطــر ؟؟؟ )
ثالثاً : رحلة البحث :
هذه النقطة هي إمتداد طبيعي للنقطة السابقة ، فتجد الكاتبة من خلال غربتها يتولد عندها نوعاً من البحث ، للوصول إلى حالة الألفة المكانية ، والأنس الغيري ، وتظهر رحلة البحث هذه في عدة رسائل لها ( لأمها ، لأبيها ، للأصدقاء ) حتى عندما كتبت قصة (عزف على شفاة الشمس) بدأتها على أنها رسالة لصديق ، وصديقة لها ، علها تجد عندهم ما يسدد حاجتها الملحة ، للوصول للامتلاء النفسي ، والتخلص من هذا البحث الدائم الذي لا يهدأ ولا يكل ، فنجد أيضاً أن دائرة البحث هذه قد خرجت إلى عوالم الطبيعة الخارجية ، ( القمر ، النجوم ، المطر ) لهم بصمات واضحة في هذه الرحلة .
أ - قصة عزف على شفاة الشمس :
- البحث بالرسائل :
( إلى أخي العزيز أنس الحجار: انفض عن الشمس سحابة الألم رجاءً..ولتكن بسمة الورد هي الرحيق..ب- نص مساءات الزيزفون :
وإلى رفيقة دربي عواطف وقد غطّتها ملامح الألم..
----------------------
قصة قصيرة:
.........
جلست تنظر بشغف إلى البحر المترامي بين أجفان الأفق، وهي مطرقة، تختزل الصمت الذي قفز من قعر الماء يناوشها، وكأنها كانت تنتظر شيئا ما، تنهدت وأمسكت بحجارة صغيرة وقذفتها في الماء وهي تحاول أن تستفز الهدوء المتداعي بين جفون البحر، وكأنها ودت أن تهب عمرها لما استفزها من المواويل أو كأنها ودت أن تنسى عمرها الذي تدفق بين الجراح والحيرة، كانت عيناها معلقتين بين السماء والأرض، تذرفان ما يمكن أن يتبقى من مهجة إنسان. )
(أمي،ج- ابتسمي :
أعرف أنك هنا..على مقربة مني..لكني لا أعرف لماذا في كل زياراتك لي، تبوحين لي بالصمت وتمضين؟ تنبشين بعضي الراحل في متاهات الجنون، وتُقْبلين على مساءات الزيزفون التي
جمعا معا من حدائق وجنتيـك...)
- البحث بالرسائل + عوالم الطبيعة
(بسـم الله الرحمـن الرحيـمرابعاً : هاجس الذكريات :
رسالةٌ إليـكِ
تحيـة قطفتُها من قلبي
حرة: يا أغنيةَ الزنبـق،
يانسمةَ البحر الحانية.. يا أغنيةَ الزنبـق، هذا مساؤنا يُكمِلُ رصفَ نجومه بالمرآة، ويبحث معنا عن القمر الغائب، وهو يرقبُ بابتسامةٍ حبلى نبـاتَ الصبر الذي يكبر فيـنا..)
إن هاجس الذكريات هو المتغير الثابت لدى الأديب ، حيث أن الذكرى هي نقطة ارتكاز للبعد ، والعودة ، نقطة استراحة يؤوي إليها الكاتب بعد لهثه الدائم ، وراء الحاضر بمبضعه الذي لا يتردد ، و المستقبل بهمومه الآتيه ، فتجد الذكرى لدى الكاتبة لها معان كثيرة ، تعود إليها فتختار منها ما يريح سريرتها ، فتثبط الصراعات داخلها ، فالذكرى بالنسبة لها جزء كشف لها عن نفسه من ماهيتها سواء كان جزءً ساراً ، أم مؤلماً ، المهم أنها باتت تعرفه جيداً ، وتتآلف معه ، تقف عليه كأرض صلبه ، أو كجزيرة وسط بحر فضي تحاول جمع أشلائها منه .
أ*- قصيدة زائرة :
الذكريات :
حطّـتْ نـوارسُ وحـدةٍ بِفِنـائـيب- نص مساءات الزيزفون :
والليلُ يحـرسُ خطوَهـا بذكـاءِ !
قالتْ : إليكِ شـددتُ رَحْلي،علّنـي
أسْتـلُّ ذكـرى أُغمِـدَتْ بدمـائـي
حيـرى، سهـرتِ ترتّبيـنَ لقاءَنـا
لـم تعلمـي أنّ اللقـا بِقـضـاءِ !
لـم تعلمـي أنّ اللقـاءَ كعُمـرنـا
(ما زلتُ أتذكر يوم أهديتني قلبك لأضعه في قلبي الصغير جدا أخفيه عن جراح اليمام..مازلت أتذكرك قادمة كالمطر، وقصيدةُ الحب تشتعل في شمعتنا..ماتزال على مكتبي غارقة في صمتها...كل يوم تحدّق فيّ ..كل يوم تسألني عنك..أسألها عنك..والليل لماّ يذكرْ بعد آخر عودة له من الرّماد...مازلتُ أتذكر يوم ألقيتُ بصمتي بين ذراعيك وصرختُ ملء جرحي، كيف أغرقتِ خوفي ومحوتِ عني غبارَ الألــم..مازلتُ أذكرُ يوم فرحتِ بقطاف دراستي ووقفنا معا في محراب الشكر، نسقي قحط المكان بسجوم الحمــد والانكسار..لله..)الخاتمة :
في النهاية أستطيع أن أقول أننا أمام كاتبة متنوعة ، شكلاً ، وموضوعاً ، تستطيع تشكل قلمها كيفما تشاء ، وقتما تشاء ، معتمدة على أدوات راسخة القوام ، بداية من الفكر المطروح ، مروراً باللغة السلسة الفياضة ، والشكل المنظم لرسم القالب .