اتجهت الأنظار نحوه بدهشة ، بعد أن لم يعره أحد التفاتا ،وهو يدخل المطار بصحبة أمه التي جاء معها يودعها!!
كانت أمه تستعد للسفر من أجل العلاج ؛ فقد قرر الأطباء حتمية ذهابها إلى دولة أخرى تستطيع أن تجد فيها ما ليس متوفرا في بلدها
- أمي الحبيبة ! هل تأذنين لي أن أصحبك في هذه الرحلة ؟
- ياقرة عيني ! إن لديك من شواغل الحياة ما أنت فيه : عملك ، وبيتك ، وأولادك ، ومشروعاتك ؛ فلا تثقلني بالقلق عليك في هذا الطلب!!
- ولكن يا أمي ...
- لكن ما ذا يا بني ؟... إنك معي ببرك وإحسانك ، ومتابعتك التي لم أفقدها ... فلا تقلق!
لم يتخلل الحوار سوى دموع الابن وهو يحاول جاهدا إقناع والدته بالذهاب معها ، فلم تجد الأم غير أن تربت على كتفيه عسى أن تكفكف دموعه التي كادت تتحول نحيبا .
- اطمئن يا ولدي ؛ فسأكون بخير إن شاء الله .
ومع نهر الحنان الذي تدفق من صوت الأم ، ونهر الدموع الذي انهمر من عيني الابن ، انطلق صوت الأذان :
فلف المكان خشوع الطمأنينة والثقة في فضل الله ورحمته .
توجه الابن إلى صلاة العشاء في المسجد الذي لا يبعد كثيرا عن البيت ، وعاد – وقد فرغت أمه من دعائها الذي تحرص عليه بعد كل صلاة - وهو يتلمس بركة الدعاء:
- " ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما".
- اللهم آمين
ودار حوار باسم بينهما ، أخلد بعده كل منها إلى النوم .
في الصباح حاولت الأم أن تثني ولدها عن الذهاب معها إلى المطار ، فلم تفلح توسلاتها ، فقد أبلغ الابن زملاءه في العمل أن لديه ما يمنعه من الحضور اليوم .
حزم الأمتعة ، وأوشك أن يحمل أمه وهو متجه إلى السيارة التي انطلق بها صوب المطار .
وفي المطار كاد يكون الوداع عاديا ؛ لا يلفت نظرا ، ولا ينبه أحدا... لكن ما حدث جذب قلوب من في المطار قبل أن يجبرهم على المتابعة .
انكب الابن على رأس أمه ويديها يقبلها وقد انخرط في بكاء أغرقت دموعه وجهه ن وتقطع معها صوته الذي أدمى من يتابعونه :
- تعودين بسلامة الله يا أمي الحبيبة .
- سلمك الله يا ولدي ، وحفظك ورعاك .
ولم يستطع الابن مقاومة مشاعره في الترجمة عما في نفسه نحو أمه من الحب والبر ، فهوى على قدميها ، يقبل حذاءها ، ويخلعهما في رفق ، ليضع خده عليهما وكأنه يتمرغ في روضة من رياض الجنة ، ويلثمهمها كأنما ينشق المسك .
وصوته لا يكف عن الدعاء لها بالشفاء العاجل والعود الحميد .
وكادت حركة المطار تتوقف بسب هذا الموقف ، والأصوات ترتفع :
- هذا بطل من نوع فريد .
وتوارى الابن عن الأنظار بعد أن اتجهت الأم نحو الطائرة ، فلم يبصره أحد وهو في طريق عودته .