سرادق الموت
مازال وجهك يابغداد يحزنني والعمر يمضي وقلبي دائم الحزن في الصبح اصحو على أنباء مجزرة في الليل امسي على أنباء مرتهن أم الربيعين قد صار الربيع بها أشلاء طفل ومدفون بلا كفن عند التقاطع أطراف مقطّعة في القرب منها بقايا الجسم والبدن سرادق الموت والتقتيل قد نصبت عند المساجد , في الأحياء في المدن والقاتلون صنوف في مشاربهم مابين مرتزق للقتل ممتهن أو طائفي مريض القلب تحكمه أضغانه السود , مازالت مع الزمن أو جاهل بأمور الدين مجترىء قد كفّر الناس من بغداد لليمن من كانت القبلة الغرّاء وجهته عند الصلاة , أخ في الشرع والسنن من يقتل النفس مقتول بفعلته لايغفر الـلـه ذنب القتل والفتن بالـلـه اسأل يا بغداد , أين همُ أين الذين همُ الفرسان في المحن من يحقنون دماء المسلمين , فما يسعون إلا لوجه الـلـه والوطن
الكويت 15/12/2006
بناء على ما سلف من مقدمات تؤكد لنا التوحد الفكري/ النفسي/الحركي/الانفعالي بين الشاعر/الشكل-المضمون/ والمضمون-الشكل -.. (1)
يمكننا أن نتبين أن الشاعر ليس إلا ذلك الرجل الذي يسميه علماء النفس السلوكيون بالشخص الحر/ الصادق "الذي يعيش لحظته بعين وفكر وقلب وسمع وتذوق يسيرون في طريق واحد" ..(2)
وإن الذي ينال فرصة الاقتراب من الشاعر أكثر يلفيه ممن "يدقق ويكرر النظرة والشمة والفكرة واللمسة والإحساس والتذوق" (3) ودوماً هو كذلك في تعليقاته الفكرية الحميمية التي يشارك بها في المنتديات عبر شبكة الإنترنت، وبالذات في متصفحات الأعمال الأدبية، حيث "يركز في التو واللحظة والمكان الذي يعيش فيه" ..(4)
وليس من نتيجة منطقية يمكن التوصل إليها الآن إلا أن الطبيعة ستحابي شاعرنا –كما يقول ثورو- لأنه صاحب إحساس قوي بها ..(5)
إن معنى محاباة الطبيعة أن تترسخ أواصر علاقة حميمية صادقة ثابتة بين مفردات الطبيعة وبين شاعرنا فيتذوق تيكم المفرداتِ بكثير من الدهشة والإعجاب والاستحسان الذي يفتقده سكان الطرف الآخر من أصحاب التعويض عن نقص إحساسهم بالطبيعة من حولهم بخلق صور ورموز جديدة متخيلة..
من ثم فإن حلول التطور البطيء في مساحة مجازية اللغة عند الشاعر ليس نقصاً في قدرته وإنما هو مرحلة من الكمال الإدراكي للموجودات من حوله.. وليس يخفى أن العقل البشري يميل إلى إكمال الناقص دوماً، وما دام هناك من يشعر بالدهشة والإعجاب وبكر الإحساس بالشجرة التي أنبتها الله في أحد الحقول، فإن محاولة إنباتها في قلب الأب هي تعبير عن عدم القدرة على إيجاد إحساس متكامل –بحكم الخبرة والممارسة- بهذا الحب الأبوي المرغوب، تماماً كما زينوا الأصنام تعبيرا عن الحاجة إلى إله حامٍ..
ومن ثم فإن شاعرنا لا يستخدم من الاستعارات غير ما نزل منزلة المواضعات اللغوية من باب "العامي من الاستعارات" (6) الذي صار مثبتاً في درجة الحقيقة في العقل الجمعي والموروث اللغوي المتداول داخلاً في عباءة فريق الزمخشري من أن اللغة كلها مجاز (7) (وجهك – الحزَ ْن – يمضي).
إذن فلا نتوقع منه إلا أن يعامل الإنسان إنساناً بحدوده وإمكاناته النفسية والجسدية ذلك لأنه عرف من أسرار النفس الإنسانية وطاقات الجسد وعلومه –معنى ولفظاً- ما جهله الآخرُ، ولن يحْدُثَ أن يُحَدِّثَ نخلةً أمامه بلغة آدمية ، وليس يلبس عباءة من النساء تعبيراً عن علاقته برحم الأم ومدلولاته التي في كتب التحليل النفسي القديم أو الحديث، ولا يبني أهراماً من الحلمات كمحاولة لغوية لاستثارة أغشية الفم المخاطية واستحضار حالة طفولة/ في إطار النضج اللغوي (8)والمتحركة بلا وعي. ولن يرتقي إلى الله وقوفا على ثدي امرأة . (9)
اللغة الحياتية في النص وقلة البديع\
وبشأن اللغة –والحديث كذلك عن الاستعارة- فالدكتور عبد القادر (10)القط يؤكد لنا أن أبا نواس "لم يكن مشغولاً بالبديع-باعتبار معنى البديع عند ابن المعتز- ولا بالصنعة بصورة تغلب على شعره، وليس من التجاوز القول بأن شعره قريب في معظمه من لغة الحياة –إن صح هذا التعبير، ولم يكن يميل إلى الجزالة إلا في القصائد التي كان يمدح بها، ربما ليثبت أن سهولة أسلوبه ليست راجعة إلى ضعف في الشاعرية عنده..".
وأنا أميل إلى تسمية لغة سرادق الموت هنا أو لغة الشاعر بعامة بالسهولة -لا بالمباشرة التي تحمل من معاني السذاجة ونبرات الارتجال الخطابي ما تحمل مما رسخ في ذهني من كثرة استعمالها في مجالس النقد والشعر- وظاهرة السهولة –كما يحاول الدكتور تبرير موقف أبي نواس- ليست نقصاً في شاعرية أبي نواس باعتبار الوجه الآخر من عملة شعره، وإن كنت –على استحياء أقدم انحرافا في قناعتي بمثل تلك المقدمة والنتيجة التي قدمها الدكتور عبد القادر فقد جعل:
- التدليل على قوة شعره السهل من خلال ذات شعره الآخر، وكأنما تعليل الظاهرة ليس في ذاتها وإنما في غيرها، مما قد يظلم آخرين لم يقفوا في موقف الشاعر مادحاً أمام ملك أو خليفة.
- صياغة الاستنتاج توحي بثبوت قالب حكمي يرجع إليه لتقييم الشاعرية(11) ، فبدلاً من أن نخلق ثوباً يناسب حجم الجسم، نخلق أجسامنا بما يناسب حجم الثوب..
أما عند شاعرنا فإن السهولة لم تضر بشاعريته التي شحنت التركيب/ والكلمة المفردة/ والإيقاع الصوتي بشحنات تخص الشاعر خصوصية أثبتانا جزءاً منها.. حتى تجاوزت اللغة من التسمية بالسهولة في معناها العادي إلى المعنى المركب من السهولة والوضوح في لغة الأب والحكيم وذي المكانة المسئول في مجتمع مثقف؛ حيث لا تحمل الكلمة في لغة هؤلاء سذاجة ولا مجرد انفعال خطابي ساخن، وإنما تحمل شحنات الخبرة والنضج والممارسة الواثقة المطبوعة بالإحساس القوي الذي حابته الطبيعة في شاعرنا الكبير.
وإن كان أبو نواس في شعره البعيد عن قيود القصور الملكية من بديعيات تهتز بين الاستعارات والمقابلات والكنايات وغيرها –يعلل هروبه عن هذه القصور إلا في الضرورة بقوله: "إنما يصبر على مجالسة هؤلاء الفحول المنقطعون الذين لا ينبعثون ولا ينطقون إلا بأمرهم، والله لكأني على النار إذا دخلت عليهم حتى أنصرف إلى إخواني ومن أشاربه، لأني إذا كنت عندهم فلا أملك من أمري شيئا" .(12)
لعله يقدم لنا تفسيراً جديدا لفلسفة ظاهرة البديع في عصره وعصر أجدادنا كذلك، وعلى الطرف الآخر أبو تمام ذلك الذي قرر الاغتراب في حضرة الملك أو الخليفة فلجأ إلى البديع، ويعايره لهذا عبد الصمد بن المعذل في هذا بذل الهوى وذل السؤال:
أنت بين اثنتين تبرز للنا=س، وكلتاهما بوجه مذال
لست تنفك طالباً لوصال=من حبيب، أو طالباً لنوال
أي ماء لحر وجهك يبقى=بين ذل الهوى، وذل السؤال (13)
إن ذلك يشجع ما ذهبنا إليه من من إكمال الناقص إذ المؤكد لدينا تاريخياً أن أبا تمام تشبع بأفكار وفلسفة أبي نواس حيث ورد الخبر بأنه كان يعبد شعر مسلم وأبي نواس من دون الله (14)، وكانت حزمة الشعر التي عن يساره هي العزى أو شعر أبي نواس .(15)
والمعادلة بين الشاعر والممدوح في معركة مستمرة يموت فيها شعراء كثيرون أو ينجون غانمين أو بغير غنيمة استفاض فيها الدكتور محمود عبد الحفيظ في كتابه (القصيدة بين الشاعر والممدوح في العصر العباسي) . (16)
إن فلسفة اللغة في حضرة الشعر -بما يتفق ومفهوم السهولة الذي طرحناه- تتفشى كالسر الموارب في لقاء حميمي مع "المخزون الثقافي والخبرات المتراكمة والإحساس الإبداعي بنقل الإحساس، فلم يهتم كولردج في قوبلاي خان بالتصوير، وإنما نقل الحالة المبنية على المخزون المعرفي وتراكم الخبرات "...(17)
وكيف لصديق الطبيعة والإحساس الحر بكماله الإدراكي ألا يجيد التعامل مع مفرداتها بخبرة لغوية تحمل إحساساً قوياً بالمفردة الكونية وبالكلمة المعبرة عنها في ذات الوقت اعتماداً على "عمق التأثر والمختزن يوماً بعد يوم في اللاشعور المرافق للاتزان العقلي " (18)ومن ثم تكون النصوص تعبيراً ناضجاً عن شخصيات أولئك الشعراء أو الكتاب الذي عليهم أن يجيدوا ويطورا من قدرتهم على تخزين صور الذكريات لديهم(ولنا وقفة مع الاستدعاء التراثي لقصيدة متى يعلنون وفاة العرب (19))، حتى يستحقوا الإعجاب، ولكنهم لن يكونوا محبوبين، فإذا رغبوا في الحصول على الحب والإعجاب فإنهم ملزمون بتطوير قدرتهم على على تخزين المشاعر والتعبير عنها بطريقة مقبولة (20)"، تلك الطريقة التي يوجبها "الاتزان العقلي الذي يحاول ضبط حمى التفجرات ".(21)
في النهاية إن شاعرنا يوصد كل أبواب اللاشعور الفردي الذي لا يضر بالرجل أكثر مما يجب، وبالتأكيد هو لا يقاوم أنواع الاستعارة التي تخرج بشكل عقلي صناعي ممتاز، ولكن الشاعر لو ارتكب مثل هذه الصناعة فسوف يحدث لنا فجوة في قلب القصيدة نتوقف عند الحكم عليها بالجمال ولا تحملنا إلى أعماق الشاعر الفكرية الرحبة إضافة إلى ما ذكرنا من العلاقة الصادقة الحرة المدركة تماماً لحدود المفردات وعلومها فمحاولة دمج إحساسين في بعضهما تجاه مفردتين مختلفتين يكون في حق الشاعر هنا نوعاً من التشويش في الإدراك، ولكننا نتحدث عن الاستعارات التي تدخل إلى اللاشعور وتتخذ صوراً مختلفة ومصطلحات تابعة للموقف الذي تنفطر فيه بدءاً من التشبيه –بعيداً عن مناقشته استقلال طرفيه أو لا ،(22) ولكنه طريق من أبسط الطرق التي تمارس التعويض- ومروراً بالاستعارة (23) والكناية والمجاز العقلي واللغوي (في حالة الصحو واليقظة) وانتهاء بالتكثيف والإزاحة (24)في نوع الحركة السريعة للعين (25)وقت النوم/الحلم.
إذن كانت كيميائية الصوت والتركيب التي صار احترافها في حكم العادة والعرف المطبوع في النفس، بحكم تأثر الشاعر بعمله المهني الحبيب إلى نفس الشاعر، فكانت القصيدة نسقاً رائعاً من الصور العقلية التي تطابق الواقع –في الوقت الذي تتنازل عن روعتها أمام من يدرك قوة إحساس الشاعر بالطبيعة- الواقع الذي يثير –في كمال إدراكه- راحة الشاعر واستحسانه.
محاولة تغيير صورة عقلية
لقد وقعت هنا على محاولة جادة بذلها الشاعر لتغير إحدى الصور العقلية تقليلا من قسوتها، وهي أقرب إلى آليات تكوين الحلم (نوم يقظة) الذي يظهر فيه الأب الضعيف قوياً، والأم السكيرة نقية، ويظل الميت حياً حيث يتحتم في مثل هذه المواقف محاولة تغيير الصورة رغم أنه من الصعب أن يحدث هذا التغيير، مما يسبب إحساساً بالإرهاق الشديد .(26)
وفي بيت الشاعر :
سرادق الموت والتقتيل قد نصبت= عند المساجد، في الأحياء في المدنِ
رغم أن البيت كان بمثابة بعض الأحجار التي نعدل وضعها في قمة هرم (27)الوضع المأساوي الذي عشناه –عرباً- في أبيات الشاعر الأولى، إلا أن هناك "سرادق الموت والتقتيل.." تمثل صورة عقلية أو محاولة تغيير لصورة عقلية تحتفظ بها ذاكرة كل إنسان عربي ولا سيما إن كان شاعراً منذ سنة 1998م / العام الأخير في حياة نزار قباني الذي أعلن تلك الصورة في جملته المنثورة "إن سرادق الموت العربي منصوب في كل مكان، والقرآن يتلى، والمعزون يجلسون في صمت". (28)
ويدخل أهل الأدب فعل ذلك الاستدعاء التراثي تحت مسمى "ثنائية التكرار" (29)كما يسميها صلاح فضل، أو "الظاهرة التركيبية التي مبعثها الذاكرة الحافظة" كما يقترحها الدكتور البدراوي زهران .(30)
وإن ما يهمنا الآن دراسة هذه الظاهرة من ناحية نفسية تحليلية: فالعرب قد ماتوا ، والسرادق منصوب منذ 1998 النزارية، ويبذل الشاعر الدكتور السمان هنا جهداً واضحاً ي محاولته تغيير تلك الصورة العقلية المتمثلة في سرادق نزار قباني الذي أصبح واقعاً ينافي الصورة التي تربى عليها كل عربي ومسلم، والجهد المبذول –هنا من قبل شاعرنا- كبير بحجم قدرته على التخزين لـ(صور الذكريات/المشاعر). ومن ثم يمكننا الإحساس بحجم المعاناة التي تكبدها الشاعر، إلى درجة من التعب أدت إلى إرهاق شديد وشبه فقدان للوزن (31)، ذلك التعب الذي يحتمل أنه أثر على قدرة الشاعر على التحكم والمراجعة في قوانين اللغة، فساق إلينا (الفعل نُصِبتْ) مسنداً إلى ضمير المؤنثة في حين ذكرت لنا المعاجم العربية –بما لا يجهله الشاعر- أن "سرادق" مذكر (32)، وكذلك في اختلاف مستوى الأبيات اللاحقة في ثبوت الخبرة اللغوية كسوالفها من أبيات القصيدة، حتى يسترجع الشاعر طاقته الضابطة في البيت قبل الأخير إلا أن سخونة انفعاله وإرهاقه الفكري من جراء محاولة تغيير تلك الصورة –بما سنوضحه بعدُ- قد أفلتت منه فرصة الوقوف على ساكن في عروض ذلك البيت.
إن الشاعر حاول إلغاء التأكيد بـ"إن" من صورة نزار قباني -التي ألقاها في وجه التاريخ، وحذف كلمة "العربي"، وحاول تعديل "الثبوت في اسم المفعول وبنائه للمجهول الذي أوحى بالغموض والرهبة والفزع- وتنازل عن ذكر عبارة ("في كل مكان" النزارية) في مكانها بعد (سرادق الموت)..
ولكن ..
الصورة التي سجلها نزار ظلت راسخة بواقعيتها: فإن التوكيد رجع في آخر شطر البيت بازدواجٍ واضح في (قد + الفعل الماضي)، وحذف كلمة العربي، فأناب "التقتيل عنها، واسم المفعول النزاري "منصوب" لا زال على بنائه للمجهول في الفعل "نُصِبَتْ"وزاد ثبوتاً بكونه فعلاً ماضياً يرسخ حادث الوقوع في النفس أكثر، و"في كل مكان" ذكرها الشاعر بتفصيل أكثر إيلاماً "عند المساجد، في الأحياء، في المدن".
إن الشاعر قضى ليالي هذه الأعوام يعدل في تلك الصورة العقلية التي سجلها نزار قباني كتغيّر لغوي تابع لواقع صورة العرب، وتعديل الشاعر كان محاولة لتوفيق الصورة اللغوية مع صورة العرب التي خزنها شاعرنا في عقله، ولكن تقلصت محاولته إلى نتيجة واحدة يؤكد لنا فيها:
- مقولته عن "محاولة ضبط حمى التفجر".
- مقولة إريك برن عن القدرة على تخزين صور الذكريات والمشاعر.
حتى هنا وبعد محاولة عقلية مجهدة تماماً لم يمكن للشاعر إلا أن يقول الواقع بإداراك يعود إلى تمامه فيثير دهشة الشاعر والقارئ.