أُمَّاه..مازلتُ صغيرا على هذه القسوة لم أُهيئْ لها قلباً حَمولاً ،ولا جسدا جلْدا ،ولمْ يكنْ في خلايا جسدي خليةٌ واحدة تقوى على لذْع سوطِها ،ولم أعتدْ منك قبل هذا إقصاءَ الغريبِ ،وقِلى المَعيب ،وكأنني حُمِّلتُ في طيِّ البُنوّة قَدَرَ الجفاء منك فصرتُ يا أماه غريبَ الدار على ذلك المحضن الرؤوم ،ولو أنني نزلتُ على حنانك ضيفا لوسِعَني منك الكثيرُ ،وغطاني منك جودُ الإيواء على مشقة المسير ،فكيف وأنا نبض قلبك ،وجارُ حِسك ،وسواد طرفك ،عشت الحياة نزيل فكرك و قلبك .
لم أبصرْ قبل بريق عينيك شيئا حتى دخلتُ الدنيا من بوابة عالمك ،وتعرفت على بني جنسها من خلال نفسِك ،وحركت يديَّ أنقل حفنةَ تراب من الأرض التي مشتْ عليها قدماك ،فاستنشقتْها الخلائق ترابا ،واستصبغتها مسكا وطيبا ،حتى صرتُ بحاسة شغفي بك وحبي أميز نسمة الهواء المارة على ثوبك عن غيرها ،فللناس أرضهم وهواؤهم ،وأنت وحدك- يا أماه- كَوني الخاصُّ بي ،وعالمي الكائن إلي .ومازالت قسمات وجهي تعبق بعطر راحتيك حينما كانا لوجهي مهده ومرقده ..فبالله عليك ماهذا البوْن الشاسع بين دحرجات الطفولة ،وأساطين الشباب في حياتي !! كانت تلك بك جنتي ونعيمي ،وهذه بدونك ناري وجحيمي .أين حبيباتُ الرضا نبتتْ معي منك ،فلما استوتْ على سوقها جفتْ أوراقها بخريف القسوة يا أماه ،وهي التي بسقت على أرضك الخضراء حينا من الدهر فازدان بها وجودي ..
ألا ما أقسى الأيام تَسقيكَ العناء في كاسات الراحة لتريك تناقضات الأحوال في أقلَّ من لمح البصر ،وتجمع لك الأبعاد المتضادة في آن واحد ،حتى تَغيبَ في نظرك المسافة الفارقة ،وتنتهي في هذا اللمح فرص التفكير والمراجعة ..وما أنت- يا أماه- بهذه القسوة إلا كمن ينزح من البحر بحرا آخر ،فلن يزيد الثاني ولن ينقص الأول ،فقسوتك لا تزيدني إلا لصوقا بك ،وتسمرا على بابك ،فما ضرَّ لو رحمتِ قلبا مِلؤه أنتِ ،وترفقتِ بحال مآله أنتِ ..
أماه..رجع بي الحنين إلى تمتمات الليل كنتِ تنسجينها لي أساطير من قصص الأيام تهدهدين بها على منامي حتى يغيبني الكرى في سراديبه ،وكم صحوت على رجعها ،لتعيدي لي زفة رنينها ،مالها اليوم عادت بدونك وحيدة العيش ،غريبة الملامح!!
أماه..لم أجد لإقصائك لي وقسوتك علي عذرا إلا أنني أبحْتُ للناس ظاهري وأخلصت لك باطني ،فمهما كثر جُلاسي حرُم عليهم استنفاذ باطني لأنه لك وحدك ..فلمَ ثم لمَ هذه القسوة المستعبدةُ راحة قلبي؟؟ولم هذه الجفوة المسيطرة على سد منافذ فرحي ؟؟ومع علمي أنه لن يحزنك شيء كفقدي بعد وجودي ،وسقمي بعد صحتي وشبابي ..أماه..أماه.