القضيـــة
كان على السلطة الحاكمة لتلك البلاد أن تتخذ القرار الحاسم بكل شجاعة و ان تتحمل تبعاته بشجاعة ايضا.
نشر البيان و أعلن أنه يمنع منعا باتا التسول في الطرقات بعد أن وفرت الدولة وسائل الإيواء و الإطعام لكل محتاج...و على إثره يؤخذ قسرا إلى الملجإ كل من وجد بالطريق يتسول.
غير أن هذه المرأة لما فتحت عيناها على الحياة وجدت نفسها وحيدة و الناس م حولها يعاملونها معاملة الغريبة غير المرغوب فيها , لذا عاشت تتسول بالجلوس على قارعة الطرقات تستل الدنانير م الجيوب بقدر ما تستطيع بتضرعاتها و بمنظرها الذي يشمئز له البعض و يرق له البعض الآخر.لقد ألفت العيش لوحدها في كوخ لا تقلق على أحد و لا يقلق عليها أحد.
إذا كانت هذه المرأة لم تحفل بشتائه و برده القارس , و لابالصيف و حره اللافح, و لا بالجوع الذي نشأت في كنفه و لا بالبؤس الذي شبت عليه ,فكيف ستحفل بقرار مثل هذا...؟.. بل حاربته بإصرارها على مواصلة الترصد للمارين و المارات بتوسلاتها . وصل الأمر بالشرطة إلى تهديدها بالسجن إن هي امتنعت عن البقاء في الملجأ, لكنها أصرت و بقيت ... كم من مرة قيل لها " يا حمقاء الملجأ أرحم لك من الشارع , فيه القوت و الدفء و تبرعات أهل الخير تصل إلى غاية سريرك." فترد عليهم ردا فيه إصرار و تعنت.الشرطة جندت تجنيدا للقضاء على هذه الظاهرة المشينة و بقيت تلاحقها هي و مثيلاتها من شارع إلى شارع.
لأول مرة في حياتها التعيسة تشعر بالمضايقة من جانب الآخرين, كانت سعيدة بتعاستها ,قانعة باللاشيء , وحدتها تملأ عليها حياتها .هي أول مرة يتدخل الغير في حياتها و يريد أن يمنعها من السلوك الذي شبت و ترعرعت على ممارسته.
باتت ليلتها تلك في كوخها تفكر كيف تتخلص من هذه المضايقات و تساءلت إن كانت هناك مدينة لا يضايق فيها المتسولون و كيف تواصل سير حياتها بغير إزعاج... أخيرا إهتدت إلى اللجوء إلى محام كما أشار عليها بذلك شخص.
في القاعة الكبيرة , بينما كانت السكريتيرة منكبة على ترتيب بعض الملفات فوق مكتبها , دخلت المتسولة ... حاولت السكريتيرة صرفها ظانة إياه إنما جاءت تطلب صدقة, لكنها أبت الإنصراف وأفهمتها أن سبب مجيئها قضية تريد حلها, لما احتدم النقاش وارتفع صوتهما سمعهما المحامي من داخل مكتبه فخرج مفزوعا و لكنه بعد أن استوضح الأمر طلب من كاتبته أن تسمح لها بالدخول بعد أن ينتهي مع الزبون الموجود عنده.
ت حالما دخلت الغرفة المكتب الفسيحة وجدت المحامي واقفا باسطا يده و فيها بعض النقود , غير أنها لم تتقدم نحوه و كأنها لم ترى النقود فأشار لها بأخذها , بقيت ساكنةفي مكانها ,احتار المحامي واستفسرها عما تريد ..سكتت فبدأ يتفرس في وجهها و يدقق النظر إلى جميع أجزاء جسمها ثم أعاد النظر إلى عينيها عله يجد جوابا للتساؤلات التي تهاطلت عليه تلك اللحظة."ماذا عساها تريد مني هذه المتسولة.. أليست غاية المتسولين هي الدراهم وفقط الدراهم؟". ثم أعاد يده ‘إلى جيبه وأخرج منها قطعا أخرى و زادها على المبلغ و وضعها كلها على المكتب و دعاها إلى أخذها و الإنصراف.هذه المرة أيضارفضت أن تمد يدها إلى الدراهم... عادت الحيرة تسيطر عليه من جديد , أخرج منديلا و مسح العرق من جبينه, ثم نزع نظارتيه و جلس داعيا إياها للجلوس رغم ملابسها القذرة, وبعد أن نطر إليها نظرة تقاسمها الإشفاق و الإشمئزاز سألها :" مذا تريدين ,اخبريني فقط ماذا تريدين؟" . بعد تردد جلست و هي تقول :" أنت ثالث محام أزوره ,أنت أخيرا دعوتني للجلوس لتسمع مني" بفضول شديد خاطبها مستفسرا :"إذا هذا أمر مهم جئت من أجله؟". بعد أن أحست ببعض الإستئناس ردت:نعم مهم و خطير بالنسبة لي ,... صحيح أنا نتسولة و قد تستغرب نا للمتسولين و المحاماة و المحاكم؟...في رأيكم هم منقطعون عن الحياة و لا يربطهم بها سوى مد اليد كوسيلة إتصال..." قاطعها و الفضول تشتد حدته:" نعم. نعم.. و لكن اخبريني ماذا تريدين.."المتسولة بعدما شعرت اأنها شدت انتباهه أردفت قائلة:"لا شك أنك سمع بقرار منع التسول, هذا القرار ضايقني و نغص علي حياتي, بقيت أواصل سير حياتي , لكن الشرطة داومت على منعي بمطاردتي من شارع إلى شارع...
أعاد المحامي نظارتيه إلى عينيه سائلا:" و ماذا تريدين مني أن أعمل لك ؟" قالت مترجية:" أن تدافع عنا نحن المتسولين, أن يتركوننا و شأننا, نحن لا نضايق أحدا..." قال مندهشا:" أن أدافع عن المتسولين؟..و ماذا أقول لهم ؟ أتركوها تتسول, من حقها أن تتسول..لا هذا ليس عملي..." ردت عليه و العبرات تكاد تخنقها :" آه عملك الدفاع عن المجرمين .. عن النرتشين.. عن القتلة.." نزع المحامي نظارتيه و نهض صارخا:" اسمعي, اخرجي و إلا..." قاطعته :" و إلا ماذا.. تطلب الشرطة , هي تلاحقني دائما".
بعد أن استرجع هدوءه,عاد إلى كرسيه معيدا نظارتيه ثم قال ناصحا:" اسمعي. إن رفضت ديار الرحمة فالسجن سيكون مأواك, اختاري أحدهما."بصوت حاد و بعناد قالت:" لا. لا هذا و لا ذاك, أنا أريد الشارع, اريد أن أعيش حرة.أجمع الدراهم قطعة قطعة من أهل البر... " تمتم المحامي بينه و بين نفسه:" ما هذه السخافات , كيف سأصرفها عني؟" أردفت متوعدة و كأنها سمعت ما مان يجول بخاطره: "عليك أن تقبل قضيتي و تدافع عن حقي في التسول و إن حاولت طردي سأصرخ بأعلى صوتي و أقول أنت الذي استدرجتني إلى مكتبك."
من جديد أخذ العرق يتصبب على جبينه .. بعد أن قاوم الإرتباك الذي كاد يسيطر عليه نظر إلى وجهها بتمعن فأدرك أنها على ثقة فيما قول, سنها مازال لم يتجاوز الأربعين سنة و الوجه مازال يحتفظ بتحد ببعض الجمال الذي حاولت ظروف البؤس و التشرد إخفاءه. فقال متمتما " يا رب من ساق إلي هذا الشر؟.."ثم واجهها بعينين كادتا تفارقا مقلتيهما :" اسمعي . لست أنا من يخاف التهديد .أنا محام مشهور , لي سمعتي .. وأنت القذرة تتجرئين على تهديدي .." لكنه فجأة عاد يلطف من حدة كلامه لما رأى تقاسيم وجهها تنكمش "على كل حال سأحاول...قالت و قد انبسطت أسارير وجهها مستفسرة:"سأدفع المبلغ . لا تخف أنا متسولة هذا صحيح و لنني سأدفع المستحقات"
وقد حققت المتسولة هدفها ,خرجت من المكتب بخطوات ثابتة مودعة المحامي الذي تركته شاردا يفكر كيف سيفكر في هذا الموضوع" هي تريد أن ترفع قضية ضد الذين منعوها من التسول ...لماذا لاأجرب وآخذ الأمر بجدية ..و لكن كيف ؟هل هذه القضية تجوز المرافعة فيها أمام المحكمة ؟ من المتهم؟ و من الضحية؟ من الظالم و من المظلوم؟..من المعتدي و من المعتدى عليه ؟ كيف سأدخل هذه القضية ..؟ من زاوية أن طلبها شرعي أو غير شرعي..لا بد أن أحدد قبل كل شيء إن كانت ظالمة أو مظلومة...
بعد أن أشعل سيجارة نادى كاتبته و طلب منها عدم السماح لأي شخص بالدخول عليه ثم طلب منها إحضار فنجان قهوة, وضع يده على جبينه ليستمر في تساؤلاته: " هل معتدية أم معتدى عليها ..إن كانت هي المعتدية فعلى من اعتدت؟ كل ما تفعله أنها تجلس على الرصيف بمنظر كئيب و تمد يدها مكررة عبارة ما قد تكون: في سبيل الله أو على خاطر ربي..أو شوفو لحال هاذ المسكينة..أو.. ربما إعتداءها هنا يكمن في كونها تزعج الناس و تكدر صفو حياتهم بلوحة البؤس التي تتفنن في رسمها وسط الطرقات .. صحيح منظرها البائس يفقد الشهية في الحياة و في كبل شيء ..لكن الناس قد ألفوا مثل هذا ..أنا شخصيا عندما أمر بهم لم أعد أحس بشيء .. النظرة الأولى ربما ..و إذا كانت هي المعتدى عليها فمن اعتدى عليها ..؟ الظروف ..؟الحياة.. ؟لكن القانون الذي يحاكم الظروف و الحياة ما زال لم يشرع بعد..بعد هذا التداعي , لبس نظارتيه و بينما كان يتأهب للخروج دخلت عليه السكرتيرة لتسأله مندهشة :" إلى أين ..و زبائنك؟ ثم أردفت قائلة: ماذا أرادت منك تلك المتسولة ؟ رد عليها :"صدقة" ثم امتطى سيارته متوجها إلى دار المحكمة محاولا الاستفسار حول هذه المسألة الشاذة.
في طريقه إلى المحكمة بدأت الأحلام تراوده "هذه قضية شاذة , لكنها جديدة لم يسبق أن حدث مثلها في تاريخ العدالة...حين دخل المحكمة وجد زملاءه جالسين في قاعة فسيحة حول طاولة يتشاورون في أمور عملهم , حياهم و جلس ساكتا و لما انتهوا من مناقشاتهم طلب منهم البقاء ليطرح عليهم قضية مثيرة , تبادل الجميع نظرات الحيرة ثم تساءلوا إن حدث شيء خطير خلال هذا الأسبوع ,فتدخل أحدهم مطمئنا إياهم قائلا: لم يحدث شيء ذو أهمية تذكر فالأمور عادية و القضايا من النوع المألوف : رشاوي..اختلاسات.. مخدرات..قاطعه المحامي مصححا "أنا لم أقل أمرا خطيرا بل قضية مثيرة , ثم شرع يسرد عليهم تفاصيل قضية المتسولة التي تريد رفع قضية الحصول على شرعية التسول.نظر إليه الجميع باندهاش واستهزاء مؤنبين: لقد أفزعتنا يا أخي اصرفها عنك واهتم بما هو أهم "رد عليهم مؤكدا : "لقد حاولت لكنها أصرت علي" تدخل أحدهم"هذه سخافات و لست لأنت من يهتم بمثل هذه السخافات .. و إن جاءك سارق و طلب منك شرعية السرقة فهل ستقبل؟ قال المحامي :هذه متسولة و ليست سارقة. نهض آخر غاضبا"هذه مهزلة ,إخواني لا تستغربوا إن جاءكم يوما متسول آخر و طلب تأسيس جمعية المتسولين أو نقابة المتسولين..
عاد المحامي يشرح و يوضح بعد أن كف الجميع عن الضحك: أرجوكم افهموني , إنها قضية شاذة يجب الاهتمام بها , أنا في البداية لم أعرها اهتماما و لكن بعد الأخذ و الرد وجدت أن التسول حقيقة موجودة ,واقع نلمسه كل يوم.. يجب اعتبار التسول كمشكلة تستلزم الحل...قال أحد الحاضرين و هو يتأهب للخروج :هيا عالجها أنت بمعرفتك...
تفرق عنه الجميع الواحد تلو الآخر,إلى أن بقي وحده في مكانه مسمرا يفكر في السيدة التي ستعود إليه و قد وعدها بالنظر في قضيتها ..
في المساء التقى بأصدقائه الذين كانوا من فئات مختلفة و كان صدره قد ضاق بما يحمله, فسرعان ما نشره في وسطهم غير أن محاورتهم في هذا الموضوع لم تفي بالغرض المطلوب إذ منهم من قال له أن الفقر و الغنى من سنن الحياة و أن التسول ظاهرة عادية و موجودة في كل المجتمعات و عبر كل الأزمنةو القضاء عليه نهائيا أمر مستحيل و منهم من قال أن ما يمكن عمله لمعالجة هذه الظاهرة هو التضامن معم بالتبرعات و المساهمة في بناء ديار الرحمة...واحتضان اليتامى لدى العائلات..بقي المحامي يجتهد في أيجاد وسيلة من شأنها إحداث الجديد في هذه المعضلة. وتبين له أن مشكلة التسول من شدة إعتياد الناس عليها لم تعد مشكلة ذات أهمية واستمر يطرح الأمر على كل يعتقد لديه جواب.
أخيرا تبين له أن موضوع شرعية التسول إما مستحيل أو سابق لأوانه.في الليل بعد أن تناول عشاءه, خرج متجها صوب مكتبه على غير عادته , مقررا تحرير موضوع مرافعته , متحمسا و عاقدا العزم على أن يكون هذا الموضوع حاملا للجديد , دخل المكتب ,أشعل المذياع مخفضا صوته .شرع يكتب :إلى سيدي رئيس المحكمة ..ثم شطبها و قرر أن يكون موضوعه رسالة مفتوحة إلى السيد رئيس الجمهورية ثم عاد و شطبها,اهتدى إلى أن يخاطب نفسه هذه المرة: إلى أنا ..إلى أنا الذي يريد إضفاء الشرعية على التسول , كل متسول يحصل على رخصة يصبح مثله مثل التاجر يمارس عمله بكل حرية و دون مضايقات . ثم توقف ,أعاد قراءتها لم تعجبه فمزقها . استقر رأيه هذه المرة أن يتوجه بخطابه إلى المجتمع فباشر يكتب:" يا ناس ..يا حملة القرآن.. يا أمة محمد .. عار عليكم أن يكون بين ظهرانيكم متسولون...".لا.لا هذا كلام قالوه قبلي عدة مرات و في كثير من المناسبات . أخذ الورقة و رماها في سلة المهملات . عاد إلى كرسيه و جلس مسترخيا بعد أنزاد من حجم صوت المذياع الذي مازال يصدر منه صوت أ كلثوم و هي تغني لوعة الحب و أسى الفراق ..أشعل سيجارة و شرع ينفث الدخان من فمه على شكل حلقات صغيرة متتابعة تعلو سابحة إلى السقف , بقي يتابع تصاعدها في فضاء غرفة مكتبه ., في نفس الوقت كان طرف السيجارة المشتعل يزحف رويدا رويدا نحو إصبعه حتى لسعته الجمرة لسعة حارة نهض على إثرها حانقا غاضبا , دكها في المطفأة ضاربا بها الحائط بكل قوة فتناثرت قطع السجائر و رمادها على الأرضية التي كان يحرص دوما على نظافتها , ثم عاد إلى مكتبه متذمرا محاولا النوم عليه بعد أن أدار زر المذياع.
سأبعث الجزء المكمل لمشروع روايتي المحرقة في المستقبل القريب بإذن الله تعالى