الكوب الخزفيّ
غمست فرشاة ألوانها للمرة الثالثة في كوب القهوة الخزفيّ ، وصاحت بنزق وبصوت متباك كأنها طفلة تحس بالذنب . ماذا أفعل الآن؟ هل أعد القهوة للمرة الرابعة؟؟ خلال أقل من ساعة؟؟ وفكرت.. لم لا تخطىء بالاتجاه الآخر؟ إن كانت تخطىء بوضع الفرشاة في القهوة بدلا من النفط فلماذا لا ( تخطىء ) وتضعها في الكوب الصحيح؟!!
حملت كوبها بيدها اليمنى وسارت باتجاه المطبخ الصغير الذي يفصله عن صومعتها ، عفوا ، مرسمها قاطع بخزائن خشبية صغيرة تستخدم سطحها لوضع الأطباق والفناجين والفاكهة ، وأحيانا ( لفرْش ) أدواتها وخاماتها اللونية ،وفي حالات خاصة تتربع فوقه وهي ترسم عندما تتعب من طول الوقوف.
ولكي تنفي عن الخزائن صفة المطبخ ها هي قد ثبتت عليها من جهة الصومعة لوحات قديمة من بقايا أيام الدراسة فأضافت بذلك لمسة عفوية جميلة للمكان .
تناولت علبة البن ، وأغمضت عينيها تشتمّ عبير البن الطازج الذي تقيم له طقسا يوميا قصيرا بشغف يضاهي رسم لوحة .. تحمص بنفسها حبات البن الخضراء بعناية وتحرقها قليلا ، ثم تنتقي مطحنة بن من العديد من المطاحن التي تحب اقتناءها ،بعضها خشبي والآخر نحاسي... بمتعة شديدة تفرغ البن في علبته وتعد قهوتها من بن وماء فقط. لا إضافات .
ها هي الآن تهز العلبة بيدها اليسرى ولا بن ! لا بن تعني لا قهوة لما تبقّى من ليل !!
اقتربت من النافذة التي تطل على الحديقة وكادت أغصان من شجرة الصنوبر السامقة تلامس وجهها ، ورائحتها المنعشة تتخلل رئتيها ولكنها لم تبتسم كعادتها.نظرت أمامها ، ثم ألقت علبة البن إلى الحديقة ، ونظرت إلى الكوب الخزفي الذي تراقصت فوق سطح القهوة فيه دوائر طافية شكلها النفط الآتي من الفرشاة ، وهمت بإلقائه من النافذة إلا أن يدها الأخرى استطاعت أن تتلقفه قبل أن يهبط على بلاط الأرضية ويتكسر ، فتناثرت قطرات القهوة الملوثة بالنفط على شعرها وجهها وثوبها ويديها وكل شيء .تنفست بعمق . الحمد لله أني لم أفعلها .. قالتها وهي تمسح عينيها بظاهر يدها .. لا بأس ، علبة البن معدنية وأحضرها في الصباح .أما أنت؟؟ لا لا وضمته كطفل إلى صدرها .. لقد صنعته بيدها منذ كان تربة جافة وحولته إلى طين شكلته وزخرفته و (خبزته) .زاغت عيناها عن المشهد كله وشردت بعيدا عن الزمان والمكان ، لقد انسحبت إلى لا زمان ولا مكان.. هي الآن غير موجودة . ربما هي كينونة أثيرية لا ملمس لها .. هي هناك فقط . لم يستطع جفناها حبس دفقة من الدمع انهمرت وامتزجت ببقايا القهوة ورائحة النفط على خديها ، وشرقت بضحكة لا تفسير لها . قلبت الكوب الخزفي بيد وتحسست قاعدته الخارجية بإصبعي يدها الأخرى السبابة والوسطى وتلمست الحرفين المحفورين عميقا هناك. وما زالت نظراتها خارج النافذة بعيدا في منطقة غير موجودة .هناك . هذه ال(هناك)تخلط كل الأمور ، ولكنها قبضت على الكوب بيديها وسارت به إلى حوض الأطباق فغسلته وجففته بعناية وهي تتحسس ملمسه الحي .. إنه طين ، والطين تراب ، وأنامن تراب .. وكلنا إليه..هناك رابط في التكوين الأولي وهذا يكفي.
هو عمر انفلت من عمرها !
هو عنصر مفقود في عناصر تكوينها !
هي أشبه ما تكون بحبة دواء تشفي ومصنوعة حسب الوصفة الأصلية ولكن ينقصها مادة ما غير متوفرة محليا ، هي ليست إذن مسألة حياة أو موت .. ذات الشكل وذات الفائدة ولكن التركيب مختلف بما هو غير ملحوظ.
هي كذلك الآن . ترسم ما زالت، تلون الأرض والسماء ولكن ألوانها ليست بدرجة التشبع ذاتها ، ولن يميز أحد هذا سواها .. الحمد لله .
مزيد من دموع غسلت ما تبقى من بقع القهوة إلا أنها تحس بلسع في وجهها من أثر النفط.حملت الكوب وصعدت فوق كرسي قريب ووسدته خزانة معلقة في أعلى مكان في صومعتها .. ثم نزلت وسارت باتجاه الماء ، غسلت وجهها واستدارت إلى النافذة
وأغمضت عينيها وهي تستنشق عبير الأغصان الحرجية وتخرج زفيرا متقطعا بحركة كأنها الصفير لتخرج ما تبقى مختزنا منذ دهور .. بينما قطرات الماء تقطر من وجهها ، ثم فتحت عينيها تستقطب ما قبل بزوغ الفجر من مسحات ضوء لا يبين ، وقالت للشجرة.. سأرسمك الآن .
__________________
حنــــــــان