ضمنا اللقاء الأخير فحسبنا أن أيدينا ستتسابق إلى وضع لبنات البنيان بعد ما آلت إلى السقوط فترة الغياب ،لكننا فوجئنا بوضع لبنات الفراق تبني حائطا عازلا بين تلاقينا ..هنا اتفقنا اتفاق الأحبة لكن على نسج خيوط الوداع ..
ومضتْ فترة لم تدع بابا لاستفزاز مشاعري إلا وولجته ،حتى إنها انساقتْ إلى غيري نكاية فيّ وعنادا..فكتبت لها هذه الرسالة...
مجنونة قلبي...
ترددتُّ كثيراً قبل كتابة هذه الرسالة، فما زالت أصداءُ لقائنا الأخير تُقعقِعُ في أذنيَّ مزمجرةً منذرةً ،لا تؤذِنُ برجاءٍ ،ولا تبِِنُّ عن أمل ،مسلطةً على مُرهَفِ حسي تهُدُّه هداً ،وتدكُّ الحياةَ فيه دكا..حتى استطار أمامي ثغرُك الباسمُ أيامَ كُنا وكانَ.. فتدرعتُ بشجاعةٍ فأمسكت بالقلمِ ،وأزحتُ عن وجه الحرف هيبةَ قسوتك ،وقسوة هيبتك،لأكتبَ لك اليوم رجْعَ الروح بعد تعرُّضها لصدمة القرارالأخير.وأنتِ على كل الأحوال مزيَّةٌ في الكمال لم تكتملْ ،وأحلى أحجيةٍ أفرزها العقلُ لكن لم تبرحْ مركزَ البداية ..أنتِ قصةٌ في حياتي غيرتُ بها أصولَ الألوان لأعيش الحياة بها ألواناً أخرى وأحوالاً أخرى، فلا تعجبي لو ضيعتُ معكِ ترتيبَ رسائلي فلم تُعْلمِ الأولى من الأخيرة ،وكأنَّ الأخيرةَ قفزتْ لتكون الأولى ،فلا نهاية أعوّلُ عليها في حبك ،ولا بداية أعوِّل عليها في أملِ تغيُّرِك ،وهكذا يأنفُ الحبُّ أن يَبقى على ترتيب العادةِ ،أو نسق المألوف فيتمرد تمردا يغير وجه الحياة إلى فلسفته الخاصة به..
تُرى ماذا كنتِ تنتظرين أن تحمل لك رسالتي هذه؟؟ ولا إخالكِ إلا واقفةً تنظرين فيها حسنَ الختام فإذا بها بسملةُ البدء ،وافتتاحية الجديد ،والإشارة إلى تقزُّمِ مامضى أمام عملقة ما سيأتي ،ألم أقلْ لكِ إن نهاياتِ الحب ليست إلا بدايات المرحلة التالية من سير عربات قطاره؟؟..فاستريحي من عناء الانتظار لترقُّبِ الختام !!إنها الحياة المقدرَة بعمر هو أنتِ،والعمر الضارب في حياة هي أنتِ ،والأنفاس المحدودة بالولادة والموت وما بينهما ليس إلا أنتِ ..فأين مني شخصُك الهاربُ إلى غيري ؟؟وأنا أعلم أنك مهما تنكرتِ فما تغيرتِ،ومهما عني أعرضتِ فما تبدلتِ ،وما إقبالك على الغير إلا كنسخة الحقيقة يعجب بها الساذج يظنها له بَيدَ أنَّ أصلها محفوظٌ في خزانتي ،فأنا الآمرُ والناهي هنا ،قد أرخيتُ لك المتسعَ لتروي غروروك باستثارة غيرتي تارةً،وإيقاظي للتلهف عليك تارة أخرى ،ولو علم ذلك الساذجُ المُغرَى بتصنعك ،الغارق في لجج أوهامك أن كل حرف منك إنما يستقي مداده مني ،كما أن كل ذرة في نسيج قلبك لم تخْلُ من ختم حبي ،وبصمة عشقك لي ،وليته يعلم أنَّكِ أشدُّ ما تكونين عني إعراضا هو أشدُّ ما تكونين فيّ هياما ،وأشد ساعاتاك عني مجافاةً هي أشدها إليَّ قرباً ومحاذاةً ،فكوني كما تشاءين مغرورةَ البسْطِ ،أو ممتنعةَ القبض ،فكلاهما مني وإليِّ..وما كنتُ بالذي تستفزه فقاعة الهواء المتضخمة تحت قشرة الجلد ،ولا بالذي يحبطُ كبرياءَه طنينُ الذباب الراقص على جبال هامتي ومسمعي ،وما أنا بالمضطرب في تفسير حبك لأن مجرد بعوضة شككتني فيه ،فاختبئي خلف المتاريس حتى يبلَّ الشفةَ الظمأُ ،وينير الكونَ وجهُ الدجى ،هو ذاك أنا حيثما كنتِ وكيفما كنت ،وإلى أي الدروب صرتِ.
وانظري اليوم –يا مجنونة قلمي-كيف صار لقاؤنا معلقاً على حبال الصمت ،ومن بعيدٍ أحدِّقٌ إليكِ لا تُخاطبُني إلا حروفُكِ الباكية ،وبين كل حرفٍ وآخر مسيرةُ شهربأكمله،وليتَ الحروفَ على بعدها قُضُبُ أناملكِ تحييني إشارتُها على ظمأٍ للمسها ..هكذا تمنيتُها ،كما تمنيتُ خيوط الدجى لوكانتْ شعرَك الشارد النافر يضيّعُ معالم وجهي ساعةَ هيجانه وطوفانه...وهذا هو السطر الأخير من رسالتي إليكِ ،فلا أنا بمستأنفٍ همزةَ الألفِ ،ولا أنا بمنتهٍ من نقطة الياء ،ولكِ بين ذاك وذاك رجاء يتلوه أملٌ ،وأمل يكبِّله يأسٌ .