كانت وفاة سيبويه صاحب الكتاب الجامع في النحو سنة 170 هجرية، أي قبل بداية مرحلة نقل العلوم اليونانية إلى العربية بعقود. وكان أستاذه الخليل بن أحمد وضع قبل هذا التاريخ علم اللغة بمفهومه القديم (أي صناعة المعجم)، فصنف أول معجم شامل في تاريخ اللغات هو "كتاب العين".[1] وهذا يعني أن العرب طوروا علم النحو (النحو بمفهومه الأشمل أي القواعد) وعلم اللغة بمفهومه الضيق (صناعة المعجم) بمعزل عن أي تأثير خارجي.
وبما أن علم النحو العربي يختلف كثيراً عن علم النحو اليوناني، فقد اعتبر الكثير من الباحثين الأجانب علم النحو علماً عربياً أصيلاً نبت في أرض العرب "كما تنبت الشجرة في أرضها".[2] ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا المستشرق أدلبرتوس ميركس الذي زعم سنة 1889 أن النحو العربي مؤسس وفق منطق أرسطو.[3] لم يأخذ أحد من المستشرقين كلام ميركس بعين الاعتبار لسببين اثنين. الأول: وفاة الخليل وسيبويه قبل نقل منطق أرسطو إلى العربية. والثاني: قلة التشابه، بل انعدامه، بين النحو العربي والنحو اليوناني.[4] فأقسام الكلم عند العرب ثلاثة (اسم وفعل وحرف) وعند اليونان ثمانية، ولا يوجد أدنى تشابه في علم الصرف وسائر علوم اللغة بين اللغتين. لذلك أهمل المستشرقون كلام ميركس، واليوم لا أعرف أحداً اشتغل بكلامه إلا المستشرق الهولندي كيس فيرستيخ الذي حاول التوفيق بين كلام ميركس والواقع التاريخي، فبين أن ميركس كان يخلط في كلامه بين علوم اللغة أيام الخليل وسيبويه من جهة، وعلوم اللغة أيام ابن جني الذي يبدو تأثير الفقه الإسلامي والمنطق اليوناني جلياً في كتابه الشهير "الخصائص"، من جهة أخرى.[5]
ولما استحال إثبات التأثير اليوناني المباشر على النحو العربي، افترض بعضهم التأثير غير المباشر عليه أي عن طريق السريان الذين اتصلوا قبل العرب باليونان وعلومهم. وينقل فؤاد حنا ترزي عن مقال لأنيس فريحة في أثر لغويي السريان في وضع قواعد الصرف والنحو العربيين كلاماً مفاده أن الأسقف يوسف الرهاوي المتوفي سنة 708 للميلاد أسهم في الدراسات النحوية السريانية ووضع نظام الحركات السرياني ذا النقط، وأن أبا الأسود كان معاصراً له وأنه أخذ نظام التنقيط والحركات العربيين عنه. ويزعم آخرون، وأهمهم ميركس، أن حنين بن إسحاق كان ألف كتاباً في النحو العربي على الطريقة اليونانية، وأن حنيناً كان معاصراً للخليل بن أحمد وأن هذا الأخير أخذ عنه ... وهذا محض افتراء لأن مصدراً واحداً لم يذكر ذلك غير ميركس الذي لم يذكر في كتابه المصدر الذي أخذ هذه المعلومة المختلقة منه![6]
لا تتطلب مناقشة هذه الأقوال وتفنيدها كثير جهد لأن الوهن باد فيها، فكلام ميركس عن كتاب لحنين بن إسحاق في النحو العربي على الطريقة اليونانية محض افتراء، وأبو الأسود الدؤلي توفي سنة 688 أي قبل وفاة الأسقف يعقوب الرهاوي بعشرين سنة! فلم لا يكون الرهاوي هو الذي أخذ نظام الحركات عن أبي الأسود؟ ولماذا لم يقم السريان، وهم أقدم تدويناً للغتهم من عرب الشمال، بفعل ذلك إلا على زمان أبي الأسود الدؤلي؟! إن في نسبة وضع الحركات السريانية للأسقف يعقوب الرهاوي دليلاً على أنه أخذها عن أبي الأسود وليس العكس لأن في هذا التاريخ ما يثبت أن أبا الأسود كان سباقاً في الوضع وأن السريان ما كانوا يفكرون في ذلك قبل أبي الأسود، تماماً مثل اليهود المسوريين الذين أخذوا نظامي الإعجام والحركات عن العرب في الوقت ذاته (حوالي 725)، مع فارق أن اليهود يقرون بذلك بصريح العبارة. والآرامية كانت في ذلك الحين اللغة التي كان اليهود يتكلمون بها قبل استعرابهم، فعلى نطقها اعتمدوا في ضبط أصوات نص التوراة الذي توارثوه دون رواية أو إسناد[7]، لأنهم ما كانوا يعرفون وقتها كيف كان نص التوراة يلفظ؛ لذلك اعتمدوا في تشكيلهم النص العبري للتوراة على النطق الآرامي. ولو كان لدى السريان نظام حركات وقتها لأخذه اليهود عنهم خصوصاً وأن الآرامية كانت اللغة التي يتحدثون بها قبل استعرابهم في القرن التاسع!
ثم إن الثابت أن اللغة السريانية تكتب بكتابتين هما كتابة "سِرطُو" (= السطر) وكتابة "الإسترانجيلو" (= [الكتابة] المستديرة).[8] ومن المعروف أن السريان الذين يستعملون كتابة "سِرطُو" قد شكَّلوها بالحركات اليونانية فأصبحت كتابتهم خليطاً من حروف سامية ساكنة وحروف يونانية صائتة. فلو كان للسريان الذين يستعملون كتابة "الإسترانجيلو" عهدٌ بحركات وضعها إخوانهم الذين يستعملون كتابة "سِرطُو" التي تشكل بالنقط لأخذوها عنهم بدلاً من إقحام الأحرف اليونانية في أبجديتهم السامية التي خسرت خصوصيتها الثقافية بعد ذلك الإقحام.[9]
ويذهب أنيس فريحة إلى أبعد من ذلك ويتبعه في خلطه فؤاد حنا ترزي دونما أي تحقيق، فيقارن بين المصطلحات النحوية السريانية ومثيلاتها العربية، ويخلص إلى نتيجة مفادها أن العرب أخذوا مصطلحاتهم عن السريان لأنها تدل على المعاني ذاتها! مثال:
المصطلح السرياني = النقحرة = المصطلح العربي:
ܫܡܐ ܖܝ ܥܒܕܐ = شِما ذِي عَبْدا = اسم الفاعل
ܡܠܘܬܘܬܐ = مَلُّوثُوثا = الإضافة
ܫܡܐ ܖܐ ܙܒܢܬܐ = شِما ذا زْبَنْتا = اسم المرة
ܫܡܐܗܐ = شُمّاها = الصفة
ܡܠܝܬܐ = مِلِّيثا = الفعل
إذاً يعتبر أنيس فريحة وجود معاني اسم الفاعل والإضافة واسم المرة والصفة والفعل في العربية دليلاً على تأثير النحوي السرياني في النحو العربي لمجرد ورودها فيه! فماذا نقول عن اللغات التي توجد هذه المصطلحات فيها قبل السريان وبعدهم؟ هل نقيس على منطق أنيس فريحة الأعوج ونقول إنها متأثرة بالنحو السرياني؟! هل نقول إن المقابلات اللاتينية للمصطلحات أعلاه (باضطراد:
participium activum, status constructus, nomen unitatis, adiectivum, verbum) من السريانية أيضاً؟! وهل نقول إنها في الهولندية، على سبيل المثال، من السريانية أيضاً، لأن هذه المصطلحات موجودة في الهولندية أيضاً؟! إن من يزعم زعماً كهذا مثل مَن يزعم أن كلمة "أم" عربية وجمعها على "أمهات" سرياني بسبب إضافة /الهاء/ في الجمع[10]، ناسياً أنه لا توجد لغة على وجه البسيطة يستعير أصحابها كلمات بدائية مثل "أب" و"أم" و"أخ" من لغة أخرى، وجاهلاً أن إضافة الهاء في بعض حالات الجمع ظاهرة سامية عامة وليست مخصوصة بلغة سامية دون غيرها! ونحن إذا التمسنا العذر للأب رافائيل نخلة اليسوعي صاحب المقولة الأخيرة لأنه رجل دين تراكمت لديه تراكمات ثقافية معينة استغلها في بعض الكتابات الطريفة التي لا يمكن بحال من الأحوال اعتبارها كتباً علمية لأنه يورد ما تراكم لديه من معلومات "على البركة" دون أدنى تفكير أو إعمال للعقل في ما يورد، فإننا في الوقت نفسه لا نستطيع فهم الخلط الشديد الذي يأتي به أنيس فريحة ويورده على علاته فؤاد حنا ترزي وهو أستاذ جامعي. هذا خلط أنتج آراء فاسدة لا يقول بها عالم بأصول علم اللغة المقارن لأنها آراء مبنية على التخمين والأحكام المسبقة وربما الشعوبية المبطنة، مثل تخمين من ظن أن الخليل بن أحمد الفراهيدي أخذ ترتيبه الصوتي لكتاب العين عن الهنود فقط لأن معجمه لا يعتمد الترتيب الألفبائي المعهود، مثل أبجدية "ديفاناجاري" الهندية التي لا تعتمد الترتيب الألفبائي المعهود أيضاً، وهو التخمين الذي ما تجاوز قط "كونه خاطرة"[11] لم يلتفت إليها أحد لأنها تفتقر إلى أي أساس علمي.