دفنتُ أناملي في كفه ..
قرأتها في عينيه : حارةٌ قديمة و قلبٌ يشي بدفءٍ جزل
عَبرتنا الخطواتُ ..
و عيناي لا تثبتان على شيء ..
ابتلعتُ أسئلتي ..
و تركتُهُ يدفعُ في عروقي المرتجفة قصصَ الماضي و الحاضر
كنتُ أشعرُ أني معلقةٌ في الهواء
الجدران تتحركُ حولي
و حرارةُ كفه تتدفقُ .. تتدفق
تحارُ في قلبي بين الأمن و الحيرة
أشارَ بيده ..
هذي مدرسته القديمة
هذا المسجد الذي ضم فؤاده
هذه المئذنة التي كان يصحو على نشر عبيرها
و ذا بيت جدته ..
تبادلتُ و الجدرانَ النظراتِ ..
ابتسمنا معاً ..
رأيتُ الجدة الصارمةَ تجلسُ بكبريائها
و الجميع حولها
الأحاديثُ تدور
و هي تديرها بحنكةٍ و حزم
رأيتُ عينيها الملتهبتين
و قامتها المعتدلةَ رغم السن
تبادلتُ و الجدرانَ حديثاً صامتاً
اكتستِ الحجارةُ بنبضٍ بشري
و عبق الجو حولي بالشّجن
تراجعتِ الكلمات ..
أفقتُ على همسه ...
- ذا بيت أبي
عمتني الرهبة
سالتْ تفتحُ عروقي و تنشر فيها رحيق الماضي
التفتُ ببطء
أومأَ برأسهِ إلى البابِ و غمغمْ ...
- من هنا خرجوا بــ ....
انتفضَ الصمتُ بين شفتَيه
و انتفضتِ الأنفاسُ في صدري
حدقتُ بالباب طويلاً
اعتزلَ الصمت .. و مضى يحكي لي عنها
كان يلهو ..
لم يعلموا أنه هناك
و لم يعلمْ أن ذاك الصندوق كان يحملها
كان طفلاً لا يعي
حدقَ بهم بذهول
و كأنما أحس بدفءِ كفيها و رائحةِ قبلاتها تنتشرُ من قبرٍ جامد
حدق بأبيه ..
فانطلق إليه يجذبه و يُودِعه عند خالته
و عندما استطاعَ أن يصرخَ باسمها
كانتِ التواءاتُ الحارات قد غيبتها
ثم غيبتها الأرض
سالتْ خفقاتي تطرقُ بابَ البيت
تمنيتُ لو تخْرج ..
لو تحدّثُه
لو تخففُ عنه كلَ آلامه
و تبدتْ لي ..
سيدةٌ رقيقة
بثوبٍ ليلكي سابغ
و عينين أخذتْ منهما الشمسُ بريقها
و استوحى منهما القمر لوحاته الشجية
تبادلنا الخفق
ابتسمتْ بهدوء
قالَ: كانتْ رائعة
و همستْ : اعتني به
ترددَ صوته في أذني : كم كنتُ أحبها
و سمعتُها حدساً لا صوتاً : يحبك كذلك
مدّتْ أناملها إليّ
داعبتْ كفي
و أومأتْ برفق
بينما الذهول يحفرُ كلماته في أعماقي
نظرتُ إليه بعينين ذاهلتين
كان يحدقُ بالسماء
و قد غشيتْ الزرقة عينيه .. وجهه .. شفتيه
كدتُ أصرخُ : هاهي ذي
لكن الصرخةَ تفجرت في أعماقي لتدمر الكثير
تراجعتْ ببطء
عادتْ تومئ بوجهها الحيي
أفسحتِ الحجارة لها سبيلاً
و تبدى حزامُ حريرٍ منسدل ..
عرجتْ برفق و مضتْ تسعى .. و تسعى
و الحزام يلتفُ وراءها
يحملها إلى ديمةٍ باسمة
اجتذبني ..
غمغم ...
- فلنمضِ
خطوتُ ..
و تركتُ قلبي هناك
يحادثُ الجدران ..
و يسمعُ حكايا أيامٍ حنون
قبل أن تبتلعنا عتمة الحارة الضيقة التفتُ
أبصرتُها ترقبنا
و في عينيها كل الحنان
لوحتْ بكفها
و مضتْ
و بقي أمام البابِ قلبان
قلبٌ ذاهل ..
و قلبٌ ..
حزين
غموض