لم أعرف للحب المطلق سبيلاً .. ولم أر للصدق الصادق خليلاً .. منذ زمـنٍ فصل جيلاً عن جيل ..
بداية ذاك الزمن ليست موضوعي – ولا أذكـر حـول نهايته ، ولم أسعـد يوماً برحيله ..
كل ما أذكـره عن ذاك الـزمـن أنه كان موجوداً ، وأني كنتُ يومها في عِداد أحيائه ولم أكـن في عداد الحاضرين .
وكانت نهاية ذاك الزمن السعيد – المجهولة المعلومة .. هي الإيذان ببدء زمنٍ آخرٍ مجهول النهاية هو الآخر .. هو زمني الحاضر الذي أحاول أن أكون حاضراً فيه - حتى وإن خاصمتني بعض شروط وآليات الحضور ..!
كلفني زمني الحاضر الظالم بمهام دونما تأهيل ولا تمويل .. فوجدتُ أسمي مُـدرجاً على قوائم الضعفاء المسئولين ؛ والطلقاء المكبلين ؛ والعقلاء المساكين ؛ والحكماء العاجزين ؛ والمثقفين العاطلين عن الثقافة ؛ والأدباء المنحدرين من جذور الفكر المُحارَب ..
وكـردة فعل من جهتي - لم أستشر فيها أحداً - سمحت لنفسي بعشق السؤال حتى أضحى السؤال جزءاً من كياني .
فاعتدت مشاكسة سؤالي لي طيلة صحبتنا الطويلة - التي لا يصح الآن أن أَهَـبَـها كيل مديحي ، ولا يليق بي ذمها - قبل أن أرى ما يكون بعدها - من أمـر الجواب أو وقفة اليأس .
ورغم أني لم أعد مطمئناً- كثيراً- لخبث سؤالي ، واستغلاله لحبي له ، وتطاوله على مبادئ أفكاري ، واقترابه أحياناً من خدش كبريائي ؛ ..
لكن عزائي ومبعث صبري يكمن في اعتقادي بأني أمتلك جوابه ، وأُتقنه نغماً وحبراً- أدباً وفكراً وأسباباً – بما يكفيه تلميحاً – وإن شئت تجريحاً وكشفاًً وتشريحاً وردماً له في نفسي ، ويكفي جوابي حُجّـةً حتى لمن أراد من المكابرين عنادي .. ؛
وما يؤخرني عن صفعه بجوابه سوى انتظاري لاكتمال نصاب أنصاري وشهود العدل وإذن الزمان وبلوغ محطة في الدهر أوكل القـادر اختيارها للأقـدار .
ورغم طاقتي على الصبر وطول انتظاري ، .. إلا أن ظنوناً أضحت تطرق مسامعي - يتقطع ولا ينقطع أزيزها ؛ وأمست أجراس هواتف الشكوكِ تـُفسد عليّ متعتي بمشاهد رحلتي السرمدية – فأتوهّـم أن صبري قد يكون هو الفرصة القاتلة التي يحتاجها قاتلي ..
فقد يُفلح مع الأيام سؤالي في تعرية كلماتي من حُجّـتها التي تزينها – ذلك إذا أطلت مكوثي حيث أنا الآن - في إحدى مكتبات منطق الجنون وفكر العبثية ..
حيث أدرس وأبحث عن سر تلذذ العاجزين بعجزهم ، وسر سعادتي معهم بعدم قدرتي على إدراك ما يُخفيه غـدي ؛ حتى بت أخشى أن تعثر عليّ الإجابة أثناء بحثي المزمن المزعوم عنها ..
انتابني مرة - هي وحيدة ليس قبلها ولا بعدها - شعور بالأسى والشفقة على روح سؤالي ، وكأنها توشك أن تُزهق بأمرٍ مني ، ..
كما لو أني كنتُ أُدرك أن الجواب قادم لا ريب – يحمل حكم إعدام الأسئلة جميعها - فليس بعد وصول الجواب من سؤال ..
فصدّقت الأمر للحظاتٍ - بحثت خلالها عن سؤالٍ أنيس لسؤالي - أحتفظ بهما خشية أن يمتلئ الكون أجوبة تبحث عن سؤال .!
ورغم إيماني بوضوح رسالتي ، واعتقادي بقـدرتي على إيصالها قولاً وفعلاً لكل من ألقى جسداً يحوي سمعاً و شيئاً من البال وقدراً يسيراً من الإبصارِ , ..
إلا أني بِتُ أشعر بقصور لدي في الأداء .. دلل عليه وأكده لي - وجود أبرياء وبسطاء ومغفلين وحمقى – في حياتي - في قائمة علاقاتي ..
يعرضون علي نصحهم وإرشادي ، ويستعرضون أمامي صنوف عبقرياتهم التي تصول وتجول في مناسبات لعب الورق ..
بينما أستعرض أنا من خلالهم كم هو غائر جرحنا ، وكم هو صادق أنين مأساتنا ، وكم هي قاصرة وقذرة –أحياناً – وبعيدة دائماً رؤية الأنا لدينا - عن حقيقة الآخـر .
وبذلك فإن سؤالي القديم ما يزال قادراً على البقاء أعزباً - رافضاً كل الأجوبة من مختلف الأعمار - التي ما انفكت تخطب وده ، ..
يسرح ويمرح كطفل برئ – أطربُ أنا برؤية سعادته وشقاوته ، في حين يعبث هو بزينة خيالي – لا مبالياً بمشاعري ..
حتى صار أملي أن أحصل على جواب له ، يكشف شيئاً من غموضه ، أو يـُلجم سيل خواطري من حدبه ..
فلا تعد تزورني إلا بموعدٍ أتهيأ فيه لاستقبالها أو طرده - ما دمت عاجزاً عن بلوغ إجابة تـُضيء ظلماءه وتملأ تجاويفه فينهار أمامها صمود حيرتي في أمـره - حتى حينه .!
كنت قد استهزأت بأمره بادئ الأمـر ، وكان ذلك مني طيشاً وجهالةَ معشر الغُشُـمِ .. ؛
أما اليوم فقد أعدتُ قراءة الجُـمَلِ أحـرفاً لا كلماتٍ – فأدركت كم كنتُ غِـرّاً حين ظننت أن صحبة السؤال تبقى أقل من أن تشغل حيزاً من البال ..
وأن سؤالاً - أنا من أذن بطرحه - يظل سهلاً – لا يحتاج جوابه الوصول إلى الحِمى البعيد الكبير– حيث مراتع الأفكار ومشارب الخيال .!
وكم كنت أسيراً لهوى الشباب ربما – وربما لعديدِ أوهامـٍ يربطني بها عَـقـْدٌ طوال حياتي – لم أُستَشَرْ في زواجي بها ، ولم يُسمح لي الآن بطلاقها ..
كنت كذلك حين كنت أنتظر - دون جهدٍ - انجلاء ضباب الأمر أمام ثقتي المفرطة العمياء بصحة تنبؤاتي .. ؛
لم أكن أُقيم للزمن وزناً وقتها - لاعتقادي أنها مسألة قادم الساعات لا الأيام ..، وتطمئن بعدها نفسي – وما ذاك إلا تأكيداً لأمرٍ أراه مؤكداً ، أما الجديد حينها فسيكون تسليم الآخرين بكل مسلماتي ..؛
قال أحدهم عني أني مجنون .. فقلت لا شك أنه جنون سؤال لا جنون عقل .. وإلا .. فإني لم أقابل عاقلاً ، أو أني لم أقابل أحداً فيما مضى من سني حياتي ..
لا أشك الآن - أيها الأديب القارئ البليغ – في أنك قد أدركت مظلمتي لدى الزمان والأقدار ..!
ولمن أراد معرفة المزيد عن صورِ سؤالي أو أراد مرافقتي .. أسوقُ بعض البوح كما أعيشه الآن واقعاً وطوال ما مضى من حياتي التي أذكـر ..
أذهلتني قهقهاتهم حيث عجزت أنا عن التبسّم . فأعدت النظـر في المشهد كله ، فوجدتني أمتلك للابتسامة مرفأً - يعُـجُّ بسفن الضحك إذا كان ما لديهم .. يُضحك ُ .!
حاولت مراراً -عبثاً - أن أجد سبيلاً – لغةً – قاسماً مشتركاً – سرداباً – أو أي شيء -غير الجنون - يُعطي لما يدور تعريفاً – ولو مُبهماً .!
لعلي في نهاية اليوم أخرج من المسرح بجملة لها معنًى يُنطق بعد أن استحال عليّ الفهم .
فوجدتني أحيا بين آهات ٍ تبتسم كلما ماتت أوراق من شجرة الأخلاق ، .. وآلامٍ تـُنكـر داءها وتصف البلسم لأعدائها ، .. وعاهاتٍ تـُسدي للسلامة بنصحها وأفكارها ، وتـُرشد العقل إلى طريق الجنون الآمن ..
أجـد من حولي عباقرة يـدّخرون حكمتهم لحين حاجتهم - وهم في أوج محنتهم ..
وجدت حولي من يكذبون على أنفسهم قبل الآخر - دون أدنى ضائقة – أثناء دعوتهم للتضحية بالأرواح من أجل صون فضيلة الصدق ..
يمتدحون المنطق ويُظهرون حبه ويلعنون غيابه وعدوّه ؛ .. ويبقى رأيهم في المنطق قائماً ؛ وصون وده من أولوياتهم ..
إلى أن يُصـدّقهـم المنطق المسكين فيتجرأ يوماً - يخالف فيه واقعاً لهم - ليس فيه ذرة من منطق ..
فحينئذٍ - يظهر أن في الأمر قولان - فتتوارد فتاوى دحض حجّة المنطق ، .. ويتفقون حينها أن المنطق -هنا - ضربٌ من الجهلِ ، فيجافونه ويُحرضون الواقع ضده ؛
.. ولا يأتونه بعدها إلا مكرهين - أو أن يُطابق هو أهواءهم صدفة ، .. ويرون أن هذا الذي يفعلون هو ضربٌ من أجود أنواع المنطقِ ..
وجدت بينهم ظلوماً يبغض ظلماً ، وأتاني من صوبهم جهلٌ يشتكي جهـولاً ..
رأيت شروط الانتحار وقد توافدت وتجمعت بينهم - فتحققت .. ولم يعد يفصلها عن النصاب ويمنعها من حفظ كرامة الإنسان لديهم - سوى تخلف ممثل الفتوى عن حضور جلسات فقه عصر العقل المنطقي .
أخيراً .. لستُ متمكناً من قواعد الشعر الفصيح وأنماطه .. فعذراً – سلفاً – يا سادة الشعر ..
ولكن أظنه أنه حدث .. في زمن قد مضى وقد نسيته ، أني سألت يوماً مخلوقاً - لا أذكر جنسه – عن أمـر كنت أجهله ..
وكل ما علق في الذاكرة من أحداث ذاك اليوم هي بعض أبيات من شعر قاله لي ذلك المخلوق ..
لا تسل سواك عما أنت به أجـدرُ .. وليس صواباً كل ما يأتيك من طرف الأنا ..
فإن حيّرك سؤالٌ أنت عليه أقـدرُ .. فاعلم أن في الأمـرِ أمـرٌ ليس مكشوفاً لنا
فلا تعد لطرحه في خلواك وانتظر .. فأغلب ظني أنك لن تكون بعد الآن ها هنا ..
لكل أناً في الحياة يا صديقي آخـرُ .. ويحصل أن يكون آخـَرُكَ بعضاً من الأنا ..
مع فائق تقديري وكبير احترامي للجميع ..