* فكرة من العالم الثالث *
فكرت كثيرًا ماذا سأكتب ليلة البارحة ، و كلما شرعت في الكتابة أجد أفكاري تتجمد بعد أول سطر ، الفكرة جميلة ، لماذا لا تتجاوب معي ؟ هكذا كنت أسائل نفسي ، ثمّ أعود لأحذف ما كتبت ، فأنا مثل الديزل أحتاج إلى وقت قبل الإقلاع ، ثمّ عدّت فكتبت من جديد لكنّها هربت مني مرّة أخرى ، حاولت اللحاق بها ودائمّا ما كانت تسبقني بمسافة طويلة ، تعبت من الركض خلفها ولا جدوى ، ثمّ توقفت و حذفت ما كتبت مرّة أخرى ، فإذا بها تعود من جديد ، وبكل تفاصيلها ، يا إلهي كم كنت مقتنعًا بها ، لدرجة أنّني اعتقدت وبقليل من الحظ قد أنال عليها جائزة التعس نوبل ، ماذا أفعل لكي لا تهرب مني ثانية ؟
بعد طول تفكير رأيت أنّ أفضل حلّ هو أنْ أصنع لنفسي كوبًا من الشاي ، فلعلّ البرد هو السبب ، وهذا الغطاء الذي ألتحف به يخذلني من حيث لا أدري ، ولم يقم بمهمته كما يجب عوضًا عن تلك التدفئة المركزية أو حتى الثانوية والتي لا نعلم في أي قرن سيتمتع بها أحفاد أحفادنا .
ذهبت إلى المطبخ- مع الاعتذار طبعًا لكل المطابخ والسيراميك والرخام - ووضعت الماء في إبريق أذكر أنّ لونه كان فضيًا عندما ابتعته ، ووضعته على الغاز وعبثًا حاولت أنْ أشعله ، لكنّه أبى واستكبر ، فالتمست له العذر لعلمي أنّه يعاني مثلي أو ربما نفد الغاز ولم أنتبه لهذه المسألة ؛ رغم أنّني لم أضعها في حسباني عندما صدّقت على موازنتي لهذا الشهر ، وهذا يعني أنّني سأضطر لإعادة النظر فيها وجدولتها من جديد ، لكن لا بأس ربما أكون مخطئًا ؛ وعلى أية حال سأكتشف ذلك بعد قليل .
أبعدت عن ذهني سوء الظنّ هذا ، لكنّني لم أحتمل أنْ يضعني أمام الأمر الواقع ، فنهرته بشدّة فهو عبد مأمور لي، وعصيانه هذا قد ينسف فكرتي التي ترسخت تفاصيلها في ذهني ، وبعد قليل من الهزّ بدا وكأنّه قد رضيّ عني قليلًا ، فتشجعت و بدأت أهزّه بشدة و بكل ما لديّ من قوة ، ها قد بدأت تشتعل النيران ، ولكن ليس كما ينبغي ، لم أستسلم ، وتابعت عملي بكل ما تبقَ لي من قوة ، وأخيرًا بدأت النيران ترتفع شيئًا فشيئًا والبخار بدأ يتصاعد ، شعرت بفرح كبير لهذا الانتصار الكبير الذي حقّقته على الجماد ، ثمّ عدت من فوري إلى غرفتي لأحضر الشاي ، وأنا ألعن الفئران التي أرغمتني على إخفاءه في غرفتي ، وفكرتي ما زالت تعنّ على بالي ، لدرجة أنّني لم أنتبه لرأسي حين ارتطم بالجدار ، صحيح أنّ الصدمة لم تكن كبيرة رغم أنّ شدّتها جعلتني أرى مذنب هالي على حقيقته ، لكن لا بأس ، لأجل فكرتي يهون كل شيء ، انتهيت من صنع الشاي ، وعدت لغرفتي ففوجئت بأمر لم أكن أتخيله ، و عبثًا حاولت أنْ أرغم أصابعي على التفاعل معي ، ويبدو أنّ كثرة الهزّ ومعها الصدمة أنستني هذا الجو القطبي لبرهة من الوقت ، حاولت أنْ أفرك يداي بجسدي لعلّي أشعرهما ببعض الدفء ، أريد فقط أنْ تتحرك أصابعي كي أسجل فكرتي التي نضجت أكثر مّما كنت أتخيّل ، وأخيرًا بدأت أصابعي تتحرك ، لكن جسدي كان هو الآخر قد تجمد تقريبًا ، حتى خيّل إليّ أنّني أصبحت مثل تلك اللحوم والأسماك المجمدة و المستوردة والتي لا نعرف لها أصل من فصل ، لكن لا يهم ما دامت فكرتي معي ، أمسكت بكوب الشاي ، لأرتشف منه رشفة علّها تفك هذا الحصار عني ، لكن الكوب هو الآخر تجمد والإبريق أصبح في خبر كان ، لم أيأس وبالكاد طويت مفاصلي وجلست أمام الجهاز والسعادة تغمرني ، ففكرتي ما زالت معي ، ولشدة سعادتي بها انهمرت الأفكار عليّ مثل المطر ، ويبدو أنّها شعرت بي أخيرًا، وأدركت أنّني حاولت المستحيل من أجلها ، فبادلتني نفس الشعور ، وخيّل إليّ أنّنا أصبحنا أصدقاء ، فبدأت أكتب وأكتب ؛ وقبل النهاية بقليل حصل أمر عادي جدًا أنساني إياه سعادتي بفكرتي ولم أنتبه له ، فقمت وكأنّ شيئًا لم يحصل ، وبالكاد استطعت العثور على سريري ، و حاولت أنْ أنام ولساني يلهج بالثناء والدعاء لدولة الصين العظيمة على هذه الولاعات الجديدة التي قبلوا مأجورين بتصديرها لنا ، والتي تغني عن مصباح علاء الدين عند الحاجة إليها .