الملك لله" أصبحنا وأصبح الملك لله..." همس بها صوت أبي يشق سكون الطريق الدولي الساحلي بعد ان أدينا صلاة الفجر في احدى القرى الملقاة على قارعته ، أكمل أبي أذكار الصباح واطمأننت إلى حزام الأمان يثبتني في مقعدي الأمامي ثم رحت في سبات عميق.بعد أربع ساعات كاملة أيقظني السائق على مشارف مدينة برج العرب التي تجافي الاسكندرية الساحرة بنحو خمسين كيلومترا ، بدأنا نسأل المارة عن مكان سجن برج العرب حيث يقبع أخي عقابا له على جرمه الشنيع بإعلان تأييد المقاومة في غزة.أمام السجن تتزاحم عشرات من السيارات ومثلها من الباعة الجائلين بالأكياس الصفراء الضخمة وزجاجات المياه المعدنية والغازية والسجائر ، وسيول من البشر تنحدر باتجاه فتحات متتابعة في أسوار السجن الحصينة يسمونها أبواباً ، على كل منها غلاظ شداد يفحصون الهويات الشخصية والمتاع ، لاقت الجموع أضعافها في ساحات الانتظار تفترش الملل ، بين الحين والآخر تلطم مسامعنا لفظة في طريقها من جندي لأهل سجين ، أخي الذي لم يتجاوز السادسة يقتل الوقت عدواً خلف لا شئ..يمازحني ضربا أو ركلا لأترك مكاني على الأرض بجوار أمي ، أشاركه عدوه ، أو نتسلى بركل حجر صلد بين أرجلنا المترنحة لتمزق أحذيتنا عمداً !!قصة قصيرة
ساعات طويلة قتلناها حتى دخلنا زنزانة فسيحة مع أهل كل السجناء السياسيين الذين توافدوا علينا ، قفز صغيرنا متعلقا برقبته عند الباب فأقبل يحمله ببدلة السجن ناصعة البياض تشف قلبا أصفى منها ، ابتسامة رضا تزين وجهه الوقور بلحيته السوداء الكثة ، نظراته الحالمة تلاقي نظرات أمي الحانية الموجوعة وابتسامة أبي التي تنبض عزة دامعة.سأل عن عرس ابن خالي فتسمرت عيناي في عينيه...
وصلت مع بداية حفل العرس أسلم لى أقاربي وأهلي..على أبي وإخوتي و.......أين عبد الرحمن ؟!!.لم أجد لسؤالي جوابا ، عيناي الذاهلتان تحملقان في العريس بين أصدقائه يراقصونه وينادونني ولا أراهم ، كسرت جمود قدمي وحرقت وقود الغيظ بداخلي أراقص العريس في جنون بحركات سريعة راسماً على شفتي ابتسامة النصر على مشاعري حتى خارت قواي فهربت إلى زاوية مظلمة هاربا من أنات الدفوف تحت وطأة الصفعات المتتالية ومن قار الزغاريد ينصب في أذني يُسيل من عيني أنهارا من دماء تحرقها ، أحاول ايقاف زفرات صدري ولملمة أشلاء روحي المتناثرة في فراغ زحام المدعوين.عدت أُجمل وجهي بنفس الابتسامة الرديئة أحتضن العريس بقوة..
بين ذراعيه أفقت من خواطري على صوت كريه : " الزيارة النتهت " ، أفلتُّ يدي من يده في بطء ساحبا قدمي باتجاه الباب أنظر إليه يحتضن يد زوجته في حنان بالغ ويتبادلان همساً باسما سرعان ما انتهى لتلحق بنا خارجين من الزنزانة إلى سجن الحرية.
في طريق العودة جافى النوم عيني فقد كانت صورته منقوشة على عدستها تتجول معي أينما نظرت ، كَمَلَكٍ كريم معلق ما بين السماء والأرض ، يطير بلا اجنحة أمام عشرات الكيلومترات من النخيل سامق القمة يقف شامخا متعاليا على الشجيرات الشيطانية التي تتربص به من أسفل ، قد ينحني مع الرياح العاتية بوقار ثم يعتدل كناسك يقف من ركوع خاشع أو كممثل مسرحي يحيي جمهوره بأدب جم.قمم النخيل توازي أشرعة المراكب العملاقة التي تمخر عباب بحيرة البرلس ، تلمع مياهها بألوان قوس قزح مستمدة من أشعة الشمس الحارقة سحرا ذهبيا،على الشاطئ يقف فقراء الصيادين يلوحون بالأسماك الطازجة في الهواء لجذب المسافرين إليهم.
لا تزال السيارة تشق الطريق بلا هوادة ، الصورة الملائكية تطير وسط سحاب أحمر يقطر دماً لا يلوث بياضها النقي..فقط..يعلن وفاة اليوم.عرفت أننا قد دخلنا إلى مدينتنا المنصورة دائماً عندما شاهدت اللافتات الخضراء تعلن تأييد السياية الحكيمة للسيد الرئيس ، تنهدت مبتسما أستمع إلى همس أبي بآيات سورة آل عمران قبيل أذان المغرب: " قل اللهم مالك الملك..."
د.ابراهيم الحسيني
29-1-2009