غذاء الروح
عندما يخضوضب القمر، وحين رؤية اكتمال أطراف قرصه الدامي في منتصف شهر آب الملتهب ---وعند انتصاف الليل, عبر تلك النسمات العبيرية الرطبة التي تنعش متنشقها ,لا بد لهذا الهواء النقي المفعم بالأكسجين؛
من أن يوقظ خلايا رئوية خاملة ؛أوشكت على أن تنهي مهمتها خلال عملية الشهيق والزفير, ووسط تلك المغريات لا بد لنا نحن الريفيين, وكعادتنا التي
ورثناها عن الآباء والأجداد من الاتجاه إلى الصعود لأسطحه منازلنا لنرصد ذلك
المشهد البديع, فننتقل ما بين ما ترسمه نجوم الدب الأكبر والدب الأصغر، وما بين ما نحمله من هموم جسدية وفكرية تنهك أوصالنا وعقولنا,
لا بد لنا من الاسترسال والاصغاء --- فمع كل سقوط شهاب يداهم الأرض
نرتعش, ونتذكر كلام أمهاتنا بأن كل شهاب يحمل شيطان قادم من بعيد ليزرع الشر في كل مكان, وما أن يتلاشى الشيطان, بانطفاء الشهاب حتى
نحمد الله ونزيده تسبيحا على تلك النعم,بتلك الروح كنت من بين أولئك الريفيين-----
وكان يومها, الجمعة المبارك ---كنت أسهر على سطح منزلنا القديم, وأمعن النظر وتختلط الأفكار والنجوم وانعكاسات الضوء عن سطح القمر, لتمتزج جميعها فتغدو سهريه رائعة نملئ بها بطوننا أوهاماً.!
بتلك الليلة كنت متخماً بالهموم, فولدي الأكبر يريد بنطا لا والتي تليه تريد حذاء
والأصغر يريد والآخر يريد ,ولا نلام نحن الشرقيين بكثرة الأطفال
فهدفنا نبيل نريد أن نغزو العالم بكثرة أعدادنا لا بعقولنا.
وبين الرهبة من قدوم الصباح المتخم بالدائنين والمليء بالإحراج
وتفضيل بعض الطرق والمسالك عن الأخرى تجنباً للمفاجآت ومطالبة المقرضين وصاحبي الذمم ووسط تلك المفارقات ---فجأة سمعت صوتاً
لم أتبين ماهيته ---صوتاً خافتاً لكنه أثار في انتباهاً عجيباً ----
للحظات أصبح الصوت جلياً واضحاً---آه ---آه الهي إنه صوت الوتر إنه العود.
رباه! من ذا الذي يداعب أوتاره ؟---من ذا الذي يغرد ؟ من يقصد إغاظتي
أقسم أنهم يقصدون إغاظتي!!
يعلمون أنني قد حلفت من يومها أن لا أمس زنده ولا أزال أذكر يوم أنبتني أمي
قائلة:بني لقد أصبحت أباً ولا يليق بك, هل تريد أن تصبح مطرباً!!!
آه ---أماه لقد قتلت فيّ عشقاً ما عهدت نفسي يوماً أن تخونه ---
أرجوك ! بني دعك من هذه السخافات .
آه---آه---
الأنامل تعزف والأوتار تغرد أنه النغم ---أنها الموسيقى أنها الروح
وصوت سيدة الغناء الآتي من الأعماق يصدح ويترجم نغمة الأوتار
((أيها الساهر تغفو تذكر العهد وتصحو---)), كانت روحي وجسدي تهبان من رقاد وسبات عميق .
ما الذي جرى ؟كل المعايير اختلطت بل أن كل العهود والصكوك
التي قطعتها على نفسي اضمحل معناها في ذاتي ,حتى الشعيرات اللا مرئية
في أنحاء جسدي بدأت تهتز طرباً و شوقاً .
لم أعِ إلا ونفسي تهرول على الدرج بلا روية ---أمسح الغبار عن عودي
وأكمل (فإذا ما التأم جرح جد في التذكار جرح فتعلم كيف تنسى وتعلم كيف
تمحو---), متجاهلاً ما سيقوله الجيران عني وما سأسمع من كلمات أمي اللاذعة
حينها كانت روحي تصعّد نحو القمر تزيده تخضباً وعذوبــــــــــــــــة