كانت زوجتي تعي تماماً ما قد يعنيه ذلك الصباح--- فبدت نشيطة متألقة أيقظتني باكراً قائلة: القهوة على النار.
استعدادات صباحية معتادة أوجزت معظمها ، بعدم حلاقة ذقني وبتسريح شعري على عجل
وجلست على الطاولة أرتشف قهوتي...
وسط تأملات زوجتي التي لم تجد كلاماًً أفضل من( اللهم أتمم هذا اليوم على خير).
ولبرهة ---تجاوزنا صوت---براجة--- بصارة( شوف بختك يابو الحظوظ )
لا أدري ما الذي دفعني لاستدراج زوجتي وإقناعها على حين غرة بإدخالها لتقرأ حظي لهذا اليوم علماً بأنها تعرف رأي تماما بهذه الخرافات
دلفت إلينا بسرعة كانت غجرية قد ملأت وجهها بالرسومات
وأثقلت على أعضائها كماً من السلاسل والحلقات
من فيكم بدو شوف بختو, أعطيتها كفي, أمسكتها بيديها الخشنتين
مما جعل القشعريرة تسري في أوصالي .
وبدأت تنظر إلى السماء وتقول أنت طبيب ,لمحت زوجتي تفتح فاها دهشة متناسية اللوحة الاسمية المكتوبة على باب منزلنا
واستطردت تقول ستفتح اليوم أمامك طرقاً واسعة وطويلة وفي جانبيها
أبواب كثيرة ستعبر أحدها لتجد مدينة رائعة أناسها طيبون ستحقق فيها
أحلامك وطموحاتك.
وأخذت تستطرد بكلام كثير--- وكثير ,قاطعتها وأعطيتها ثمن تنبؤاتها
وانطلقت إلى الانتخاب يحدوني الأمل الذي استمد يته خفية من تلك
التخريفات.
عبرت إلى قاعة الانتخاب حثيث الخطى ---وقد كتبت على باب عيادتي
عطلة رسمية بسبب الاصطفاء(الانتخاب)
جلست على أول كرسي صدفته في الصف الأمامي وأنا أحمل بين جوانحي همة وحماساً لم أعهدهما منذ سنوات
تلفت لأتبين عيوناً ترمقني بنظرات سعيدة, وابتسامات عريضة
فيض من السلامات والتحيات ---ألهبت مشاعري وزادتني ثقة بأن الوعي قد بدأ يمد جسوره إلى عقولنا وقلوبنا
الجميع يريدون اختيار الأفضل ---نعم رددت في نفسي إنه يوم الاصطفاء.
وما هي إلا لحظات حتى دخل جمع من الكبار القدماء يرأسهم قادم من العاصمة.
بالتفاتة عفوية وكأني بتلك الوجوه قد تجمدت وتبدلت قسماتها واختفت ابتساماتها,حتى نبرات الأصوات تغير فحواها
لم تعد تلك العيون التي كانت ترمقني بود بل أشاحت بنظراتها عني
وكأنني خرجت من جلدي...!!
وبعد توجيه موجز من الراعي لهذا المحفل الانتخابي بيّن فيه الغاية
من هذا الانتخاب في اختيار الأمثل والأجدر.
فتح باب الترشيح برفع الأيدي اعتباراً من النسق الأول وكأني بجميع
الأيدي قد رفعت فقلت في نفسي على مايبدو أن المرشحين قد جلسوا في الصف الأول...!!
وأردف رئيس الجلسة النسق الثاني وكذا رفعت الأيدي جمعاء
وتوالت الأنساق والأيدي مرفوعة تكاد تصل إلى سقف القاعة...!!
لم يستطع الضيف الراعي ضبط نفسه من القول: أحييكم يا أبناء وأحفاد
- سلطان باشا الأطرش - فأني أراه قد خلّف فيكم ألف قائد ٍ وزعيم
بلغ عدد المرشحين(49) وعدد الناخبين(107) .
ابتسامة عريضة علت وجهي وقطرات من العرق بدأت تتصبب على
جبيني وموجة محمومة هاجمت أوصالي .
همست في أذن صاحبي الذي بجانبي ما هو رأيك ؟ لكنه وجم عن الإجابة وآثر الصمت وسط الشحوب الذي بدا على وجهه.
أُقفل باب الترشيح --- وبدأ فرز الأصوات ورئيس الجلسة يتلو الأسماء
على مكبر الصوت وهو يفتح الأوراق الانتخابية ورقة تلو الأخرى.
لم أعِ نفسي إلا وأنا أغوص في الكرسي الذي يحملني
الأوراق تفتح والأسماء تتلى--- وأنا أعيش الأيام القلائل التي سبقت موعد الانتخاب
هاهو ذا المرشح راكان الفالح يرتجل خطبته وسط عشيرته(والله لو وضعوا
السيف على عنقي لن أختار إلا مايمليه عليّ ضميري,هذه الفرصة منحت لنا حتى نضع الرجل المناسب في المكان المناسب)
أما ذلك المهندس المهزوم من إدارة عمله لأسباب مبهمة, فقد أثقل علينا
بخطاباته الأفلاطونية الملفوقة
وعن أولئك الذين اعتلوا عرش المسؤولية منذ عشرات السنين فقد آثروا
أن ينشطوا بصمت وذكاء عجيبين.
ولم تغب عني صورة تلك الأمسية التي دعيت إليها لأستشف أراء المنتخبين وقد خرجت يومها بانطباع رائع بأن الدنيا ما تزال بخير.
صحوت فجأة على اسمي يذاع من مكبر الصوت, ثم ما لبثت أن غبت بعد أن غاب اسمي لدقائق طويلة
انسحب القلائل....ولم أجد طريقة للانسحاب,فليس بالعدد القليل الذي نصحني بل وأصرَّ بقوله مالك وتلك الأمور دعك في طبك وأدبك
ووكأنني أعيش خارج أسوار هذا الوطن ---بعيداً عن همومه وطموحاته.
أعلنت قائمة الناجحين وتلاها الراعي الكبير
فنجح صاحبنا راكان الفالح وكم كبير من السابقين---السابقين –
وبت أنا وأمثالي من المهزومين بالضربة الفنية القاضية لعدم التكافل
والتحالف---!
عدت إلى مأواي أحط الرحال---مثقلاً بالتساؤلات ---التساؤلات—؟
انسللت خلسة إلى منزلي--- بعد أن أدرت مفتاح الباب بهدوء متناسياً
لهفة المنتظرين , واسترخيت وسط فراشي أُمني النفس بما تنبأت به
تلك الغجرية في الصباح الباكر ومقولة
كذب المنجمون ولو صدقوا--- تكاد تصم مسامعي