الأسماك في صحراء مصر
ظل الاعتقاد سائدا لفترة طويلة أن الصحراء مستبعدة تماما عند التفكير في الاستزراع السمكي. ولكن الواقع العملي والنظرة العلمية أثبتت مع مرور الزمن أن العكس هو الصحيح.
فقد تحولت بعض المناطق الصحراوية بالكامل إلى الاستزراع السمكي مثل وادي النطرون وذلك لطبيعة المنطقة التي تجعل من هذا النشاط هو النشاط الوحيد الممكن في هذه المنطقة. فالمياه متوفرة وبكثرة ولكنها على أبعاد قريبة من سطح الأرض كما أن ملوحتها لا تصلح لإغراض الزراعة. ومن هنا فقد انتشر ما يعرف بنظام الترنشات حيث يتم حفر قنوات بأطوال تصل إلى 100 متر أو أكثر وعرض حوالي 10 أمتار وتتدفق مياه النشع تلقائيا لتملا هذه الأحواض وتبقى عملية تغيير هذه المياه حيث تتم باستخدام طلمبات ماصة طاردة لتغيير المياه بصفة مستمرة.
ورغم أن هذا النظام بدائي ولا يسمح بتجفيف الأحواض حيث أن مخلفات الغذاء والأسماك تتراكم على قاع الأحواض دون إمكانية صرفها صرفا سليما فان هذا النظام ما زال مستمرا منذ أكثر من 10 سنوات دون ظهور مشكلات حقيقية إلا في بعض الحالات النادرة!
وهناك حالات في مناطق صحراوية أخرى أثبتت نجاحا كبيرا وهى أنظمة الاستزراع السمكي المتكاملة مع الإنتاج النباتي والحيواني والمثل الحاضر لهذا النظام هو مزرعة الكرام بمنطقة بدر بمديرية التحرير. فقد استغلت المياه الجوفية فى إنشاء مزرعة سمكية مكثفة فى أحواض أسمنتية وصل إنتاج المتر المكعب بها إلى 20 كيلو جرام من الأسماك فى المتر المكعب واستغلت مياه الصرف من المزرعة في استزراع البرسيم الحجازي الذي تربى علية الثروة الحيوانية وخاصة الأغنام.
فإذا نظرنا إلى فلسفة هذا النظام فان المياه الجوفية لا تحتوى على أي عناصر مغذية للتربة كذلك الأرض الصحراوية تفتقد إلى المواد العضوية ويؤدى استخدام المياه تحت هذا النظام إلى الحصول على الفوائد آلاتية:
1-إثراء المياه بالمادة العضوية التي تفتقر إليها التربة في المناطق الصحراوية.
2- الحصول على أكثر من منتج اقتصادي من نفس كمية المياه المستخدمة: وذلك عكس ما كان يشاع عن أن ندرة المياه يجب أن نحافظ عليها لاستخدامها بالتنقيط في الزراعة فقط. بل إن هذه المزرعة قد استحدثت نظاما للري بالتنقيط وبالرش على مياه الاستزراع السمكي.
3- ترشيد استخدام المياه: إن الاستزراع السمكي يرشد استخدام المياه حيث تقوم الجزيئات العالقة بالمياه من فيتوبلانكتون وزوبلانكتون ومواد عضوية بإغلاق مسام التربة لتزيد من تماسكها واحتفاظها بمياهها.
وإذا تعمقنا في قلب الصحراء حتى واحة سيوه فسنجد أن الاستزراع السمكي قد عرف طريقة إلى الواحة فقد أثمرت جهود هيئة الثروة السمكية في نقل زريعة الأسماك إلى المصارف إلي توفير الأسماك لسكان الواحة والتي كانوا لا يعرفون عنها شيئا.
كذلك قام بغض سكان الواحة في استزراع الأسماك فيما يعرف بالمحابس وهى خزانات المياه التي تقام على الآبار الجوفية لتوفر مخزونا احتياطيا دائم من المياه. وقد نجحت التجربة لتوافر غذاء رخيص للأسماك من مخلفات عمليات التصنيع الزراعي.
أما في الصحراء الغربية فتوجد بعض البحيرات التي يسميها الأهالي ببحيرات البترول والتي تكونت نتيجة عمليات البحث عن البترول والتي غالبا ما تصل إلى خزان المياه الجوفية والذي يمتد ليشمل إضافة إلى الصحراء الغربية أجزاء من ليبيا وتشاد والسودان وهذا الخزان يوجد تحت ضغط هائل من الطبقات الصخرية مما يؤدى إلي خروج المياه باندفاع كبير لتكون العديد من بحيرات من المياه العذبة. وقد قام البدو باستزراع هذه البحيرات بالأسماك وأعطت نتائج مبشرة ومن هذه البحيرات بحيرة قيفار في الجزء الشمالي الغربي من منخفض القطارة وبئر واجد بالقرب من واحة سيوة. وهذه البحيرات قد تم وضع خطة لاستغلالها في مقاومة التصحر بتلك المناطق ولخلق مجتمعات عمرانية بها بحيث يكون الاستزراع السمكي هو النشاط الرئاسي لخطة التنمية.
مميزات استخدام المياه الجوفية في الاستزراع السمكي:
1-خلوها من أي مسببات للأمراض.
2- خلوها من أي مصادر للأنواع غير المرغوبة من الأسماك.
3- ثبات درجة حرارتها إلى مدار العام.
4- تستخدم في بعض الحالات كمصدر للتدفئة لارتفاع درجة حرارتها وبالتالي إطالة موسم التربية حتى يمكن توفير ميزة تنافسية عند تسويق الأسماك.
وفى بعض الحالات تخرج المياه الجوفية محملة ببعض الغازات الذائبة أو اكاسيد الحديد وهذه يمكن التغلب عليها بمعاملتها بالتهوية.
وإذا انتقلنا إلى منطقة أخري وهى سيناء فهناك تجربة رائعة أجريت في محطة بحوث المغارة التابعة لمركز البحوث الزراعية بوسط سيناء في أحد أحواض تخزين المياه والذي بني من عدة سنوات بغرض تخزين المياه الجوفية لاستخدامات الزراعة والذي يبلغ حجمه 300 متر مكعب مياه فقد تم إنتاج اسماك البلطي باستخدام التسميد العضوي والكيماوي للمياه لإنتاج الغذاء الطبيعي وباستخدام أغذية من مخلفات المزرعة بحيث كانت العملية الإنتاجية لا تتعدى ثمن الزريعة وبعض الإضافات الغذائية البسيطة.
ويجرى حاليا تقييم التجربة تمهيد لنشرها حيث يوجد في وسط سيناء ما يقرب من 200 خزان مياه بنفس المواصفات ولو وصلنا إلى إنتاجية نصف طن من كل خزان فهذا يعنى إنتاج 100 طن من منطقة وسط سيناء وحدها. علما بان هذه الكمية يمكن مضاعفتها في حالة استخدام أجهزة التهوية بالأحواض واستخدام علائق متوازنة يتم تصنيعها من الخامات المحلية.
وهكذا أصبحت الصحراء تساهم بجزء هام من الإنتاج القومي حتى أن إحصائيات هيئة الثروة السمكية ستشمل في خلال السنوات القادمة إضافة إلى إنتاج النيل وفروعه والبحيرات والمزارع السمكية إنتاجية المناطق الصحراوية والتي تتصاعد بمعدلات كبيرة بفضل تشجيع القائمين على شئون هذا القطاع من أبناء مصر المخلصين.
بقلم: د. مصطفى محمد سعيد حسين- مركز بحوث الصحراء-وزارة الزراعة المصرية.
تم نشر هذا المقال بتصرف وبإذن من سيادته.