كيف السبيلعرضت في المقالة السابقة الحقائق المرة، أو بالأحرى جانب من الحقائق المرة التي تعاني منها الأمة الإسلامية، ولاسيما الجزء العربي منها، وفي الحقيقة فإن مشكلتنا في فلسطين ليست هي كل مشكلتنا، بل ربما ليست هي المشكلة الأكثر أهمية أو خطورة.د.موفق سالم نوري
فإن مأزقنا لا يقبع في فلسطين، بل إن المأزق الحقيقي قابع في كل بيت، بل في كل نفس، مشكلتنا هي وجودنا الحضاري برمته، غير أن قضية فلسطين كانت المفتاح الذي نلج منه إلى حقيقة المأزق الذي نعانيه، أو أنها المعيار الذي يذكرنا في كل وقت بما نحن عليه في الواقع. فقضية فلسطين جزء من المأزق الكلي والشامل الذي تعاني منه أمتنا، ومعالجة جزء من المأزق لا يأخذ مداه الحقيقي والفعّال ما لم تمتد يد المعالجة إلى طبيعة المأزق برمته، فما حقيقة المأزق الذي تغلغل إلى كل جزئيات حياتنا؟ من المسؤول عنه؟ كيف السبيل إلى معالجته؟!
ولأن الأمر ليس مسألة طبية مع كثرة الألفاظ (الطبية) المستخدمة في توصيف الحالة التي نعانيها، لذا فإن الأمر لا يمكن معالجته بـ(وصفة) يتم تناول جرعات منها بنظام معين، ثم بعد ذلك يستوي الأمر ونتماثل للشفاء، لنعود إلى المسار الطبيعي لحياتنا، والأفضل أن نستعير التشبيهات اللفظية في التوصيف حتى نكون وجها لوجه أمام الحقائق، حلوها، ومرها، إن كان فيها ما هو حلو! وعلى الرغم من كل هذا أقول: حذار من اليأس، فـ(إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، [يوسف:87].
أين نحن الآن؟
يقال: إن رئيساً من رؤساء الدول صنف الأمم والشعوب، وجعلها في درجات فكان نصيب العرب أن احتلوا الخانة الأخيرة في الترتيب!! ولا ريب في أن ذلك يشكل صدمة حقيقية لنا، غير أن الصدمة الحقيقية ليست في أننا نحتل الخانة الأخيرة هذه! بل وإن الصدمة الحقيقية هل هي أننا فعلاً نسير في ركب الحياة مع الآخرين فاحتللنا الخانة الأخيرة؟!
باستخدام معايير الموت والحياة البشرية، نكتشف أن معنى الحياة عندنا معنى زائف؛ فنحن نفهم الحياة على أنها إشباع بعض الحاجات الغريزية، وبطريقة استهلاكية لا ترقى إلى مستوى الأداء الإنساني الحقيقي، همومنا ذاتية وشخصية إلى أقصى حد، عطاؤنا رتيب وبطئ مثل دولاب الماء الذي ينقل الماء وبطئ وتمهل من النهر إلى الساقية، ثم نمضي في التهام معطيات حضارة الآخرين من غير تمييز حقيقي بين سليمها وسقيمها، ثم نبدو وكأننا متحضرون!!
وكثيرون هم الذين يجترون هذه المعطيات بحماسة، معتقدين أن فيها حبل النجاة، بل إن الغشاوة أعمت أبصار وبصائر هؤلاء، حتى توهموا أننا نعيش في حالة نهضة، أليست سياراتنا فارهة؟ وعماراتنا شاهقة؟، وقرانا مكهربة؟ وشوارعنا نظيفة؟ ومكاتبنا فيها حواسيب؟ بل إن بعض مدننا راح سكانها يرطنون بالإنكليزية كلغة تعامل يومي في الأسواق أو المكاتب الفخمة.
ثم نتجاهل الحقائق المرة الآتية: أن مجموع الدخل القومي لكل الدول العربية، بما فيه الدول النفطية لا يساوي مجموع الدخل القومي لدولة مثل: إسبانيا أو ايطاليا، مع انه هذه ليست من دول الخط الأول في الرقي والتقدم المادي طبعاً، ومع هذا فإن هناك من يرى أننا شعوب غنية والحقيقة خلاف ذلك.
ونسبة الأمية في بلادنا هي الأعلى في العالم، ولدولنا موقع الصدارة في الفساد المالي والإداري, وبلداننا هي الأسوأ في العالم قاطبة في مدى احترام مواطنيها, جامعاتنا لا تحتل ربما أية مكانة بين جامعات العالم، نسب المساهمة في الإبداع العلمي العالمي ليس لنا فيها أية مكانة، بعد كل هذا يأتي من يتحدث عن النهضة الحضارية التي تشهدها بلادنا، متجاهلاً حقيقة إننا سوق رائجة لمنتجات الآخرين.