الحلقة الرابعة
كانت( جوليا ) تعد الساعات والأيام والشهور بإنتظار لحظة عودتها للسودان لأكثر من سبب بعد غياب إمتد لأكثر من عشرة أعوام قضتها بمدينة نيويورك بأمريكا .. ولم تكن هجرتها إلي ذلك البلد عن رغبة حقيقية في الهجرة بعد الأحداث العاصفة التي زلزلت كيانها وقلبت أوضاعها رأساً علي عقب .. كانت تعيش كغيرها من الفتيات أحلام الدخول للجامعة والحصول علي وظيفة محترمة ومن ثمّ الزواج وتكوين أسرة تلفها السعادة والهناء .. ولكن أحلامها ذهبت أدراج الرياح .. فإن كان بالنسبة للجامعة فقد حققت هدفها وأكملت دراستها بنجاح .. وإن كان علي صعيد الوظيفة فقد إلتحقت بوظيفة محترمة بإحدي المنظمات الإغاثية .. وقد كان معها بالمنظمة ( وجدي ) إبن الجيران وفارس أحلامها منذ أن كانت صبية صغيرة بالمرحلة الثانوية .. بادلته حباً بحب وكانت تكثر من زيارة شقيقته (ماريا) بسبب أو بدون سبب لتكون قريبة منه .. وقد إستغل وجدي هذا الضعف الأنثوي الكامن في أعماقها أبشع إستغلال .. فكان يختلي بها بمكتبه بالإدارة (اللوجستية) ويمتهن جسدها دون شفقة ولا وازع من خلق أو ضمير ويحقق عبرها نزواته الفجة والآثمة وهي بالكاد تقاوم عربدته إلا عندما تشعر أن الأمور تسير بإتجاه يتناقض وطبيعتها وتربيتها فتوقفه عند حده . . كانت تعزي نفسها عقب كل محاولة بأن وجدي سيتزوجها دون أدني شك وقد أعلن ذلك صراحة لأسرتها وأسرته وصار يأخذها في مشاويرطويلة بإعتبارها خطيبته وزوجة المستقبل .. ولكن تلك الشخصية المعقدة كانت تخفي تحت إهابها ذئبآ بشرياً لا يرحم .. ومن ثمّ كان ما كان ووقعت الكارثة الكبري .. وعندما تبينت جوليا أن وجدي قد غدر بها وأنه يتهرب من لقائها أخبرت بذلك زميلتها ورفيقة صباها (هند) وساءت الأوضاع بشدة عندما اكتشفت أنها حامل بعيد سفره إلي روما منقولاً لفرع المنظمة هناك .. رجته أن لا يسافر وأن يكمل مراسم العرس حتي لا يعرضها وأسرتها للفضيحة وبكت أمامه بدموع كالمطر .. وبدا لبعض الوقت وكأنه يقوم بالتجهيز للزفاف فاطمأن قلبها بعض الشيء إلي أن فوجئت ذات صباح بأنه قد سافر بالفعل .. ركضت نحو منزلهم لتقرأ في عينيّ شقيقته مظاهر الرثاء والسخرية بل والتشفّي .. لماذا هذه المعاملة اللاإنسانية يا هذه ؟ أين حق الجيرة والزمالة بكل مراحل الدراسة منذ الإبتدائي ..؟ تستاهل جوليا كل ما جري لها .. هذه المتغطرسة المغروره .. لماذا هي دائماً ومنذ أن كنا مجرد تلميذات الأوفر حظاً في كل شيء .. إجتذبت إهتمام شباب الحي وترتدي أحدث الثياب والمصاغ الذهبية وهي الأكثر تألقاً وظهوراً في جميع المناسبات .. تركب عربة جديده تحمل شعار منظمة الأمم المتحده وعندما ندعوها لتناول كوب من الشاي تتعلل بالمشغولية (عندي ترجمه .. عندي مؤتمر هام .. إعداد الميزانية يأخذ كل وقتي) .. لا تبحث عن الحجج والذرائع لتفادينا .. هكذا إذن .. أنت تغارين منها ولا ريب .. أغار من محبطه إسمها جوليا ..لا يا سيدي .. أنت لا تعرفني دون شك ..وعادت جوليا أدراجها تجرجر أذيال الخيبة والندم ولم تتمالك أعصابها المرهقة المفاجأة فدخلت في حالة من الهستريا أقرب للجنون .. بذلت جوليا جهوداً مضنية حتي لا تظهر عليها آثار الحمل وقد عزت أعراضه للملاريا .. كان المستر رتشارد المدير الأقليمي للمنظمة يراقب جوليا عن كثب ويتابع تلك الخطوات العنكبوتية التي يقوم بها وجدي ودوافعه الدنيئة فعمل علي نقله إلي روما دون أن يشعره بذلك .. مرت الشهور سراعآ وساعة الصفر تقترب يوماً بعد يوم .. حثتها نفسها أكثر من مرة بالإنتحار ولكنها كانت تصرف تلك الرغبة عنها من أجل طفلها القادم .. وعندما شعر المستر رتشارد بأن موقفها قد بدأ يزداد سوءاً أرسلها في مامورية بإحدي الدول المجاورة حتي يتسني لها ترتيب أوضاعها ومن ثم مداراة الفضيحة التي توشك أن تحل بها .. وفعلاً سافرت إلي هناك ووضعت طفلها وتركته بإحدي دور الحضانة وعادت للخرطوم .. وكان ما كان من أمر تخلصها منه بتلك القسوة التي لم تتعود عليها بعد أن عادت به سراً للخرطوم .. بيد أن هذا الأمر عاد عليها فيما بعد بإحاسيس ثقيلة جثمت فوق صدرها ليل نهار إلي أن أقدم المستر ريتشارد في لحظة صفاء نادرة جمعته بها في حفل عشاء بمناسبة رأس السنة علي الإفصاح عمّا يعتمل في جوانحه ..وكيف أنه معجب بها منذ أول يوم إلتحقت فيه بالمنظمة وكيف أنه كان يراقب ما يحدث بينهما بحياد وإخلاص شديدين دون أن يعطي لنفسه الحق في التدخل بشئونها الخاصه .. you don’t know what you have done to me.. قال لها بالإنجليزية بعد أن عجز في الإفصاح عن مشاعره بالعربية المكسرة وزاد علي ذلك بأن إقترح عليها نقلها لرئاسة المنظمة بنيويورك ليلحق بها ويتزوجها مسدلاً بذلك الستار علي أقسي فترات عمرها .. ولكن صورة طفلها لم تبارح خيالها في يوم من الأيام بالرغم من وجود ( لوسيانا ) طفلتها الوحيدة في حياتها .. كان يضغط عليها بإطلالته الملائكية وضحكته الآسرة ووجهه الصبوح .. لذلك عمدت إلي أخذ مئات الصور الفوتغرافية له قبل التخلي عنه وعاينت جسده الصغيرالأنيق شبراً شبراً لتتأكد من أية علامة تقودها إليه فيما بعد ووجدت ضالتها في ذلك الوشم العريض أسفل كتفه الأيمن .. ثم بادرت بشق تلك القطعة المعدنية من فئة العشرة دنانير إلي نصفين ودست نصفاً بين ثنايا قميصه واحتفظت بالآخر داخل خزانة ملابسها . عدت من الورشة وأنا بمعنويات عالية وكأنني امتلكت الدنيا بما فيها ومن فيها فقد زارتنا بالورشة المضيفة سحر لإجراء بعض الصيانة بعربتها .. كنت وقتها مستلقياً تحت عربة حكومية أراجع بعض النتوءات التي حدثت هنا وهناك بعد تعرضها لحادث مروري في طريقها من وادمدني للخرطوم .. عندما غمرني صوت هامس .. أوسطي حربي ..أوسطي حربي .. لم أتبين صوتها للوهلة الأولي ولكن قدماها وحذاؤها اللامع ذكراني من تكون .. سحبت نفسي من تحت العربة بعد أن اصطدمت بألف شيء قبل أن أقف علي رجليّ .. أستاذه سحر ؟! .. مش معقول ؟! ..( شنو المش معقول يا غبي .. لعلك توهمت أنها بنت الجيران أو واحدة من الأهل ..) هكذا قال لي ضميري موبخآ .. تغيرت لهجتي وصورة الفرح الذي احتواني إلي لهجة هادئة .. مرحب يا أستاذه .. أيّ خدمه ..؟ .. يعني ما نسيت إسمي ؟ ..همست في وجهي وابتسامة ملائكية تتوزع علي شفتيها وعينيها وتضاريس قدّها الصبي ..لا ما نسيت معقول أنسي يا أستاذه سحر ( هو شنو الما معقول ومعقول دي يا شاب ؟! أظنك قايلها دفعتك في الجامعه ) .. هكذا عقب ضميري .. ولا أدري لماذا يضيق عليّ وهو جزء مني .. أليس بوسعنا أن نتآخي مع هولاء الناس الرائقين النظيفين ولو للحظات ؟ .. وهنا تذكرت طبقة التراب الكثيفة التي تربعت فوق ( الأبرول) وفي مؤخرة رأسي .. وعندما فتحت باب العربة لتريني الإشارة الضوئية بال( طبلون ) والتي تشير بوضوح إلي أن ( الماقنيتا ) لا تعمل .. ترددت برهة في الجلوس خلف المقود وبدأت في نفض التراب عن ظهري فإذا بها تساعدني في ذلك .. لامستني أصابعها الرقيقة التي طرقت ظهري وقلبي طرقات رقيقة وكادت أن ترسلني إلي غرفة الإنعاش .. شجعتني علي الدخول وهي تقول لي لا تهتم .. غدا موعد صيانتها الأسبوعية .. (علي فكرة )لماذا لا تحضر لنا بالبيت غدآ وهو يوم جمعه ولا أظن الورشة تعمل يوم الجمعة لمراجعة الماكينة وتبديل الزيت والغسيل هذا طبعآ إذا لم يكن لديك مانع .. أعرف إنك أوسطي كبير والغسيل لا يليق بك ولكنني سأدفع لشخص آخر في كل الأحوال فلماذا لا تستفيد أنت من المبلغ .. ها قلت شنو ..؟ أقول شنو يا .. يا أستاذه سحر .. (بلاش) من الألقاب يا حربي ..أنا مضيفه ولست معلمه .. ناديني باسمي فقط .. وهكذا صنت لها العطل وأخذت منها عنوانها وأخذت هي روحي وضميري ومصيري .. لقد أخذت كل شيء .. كل شيء وغادرت والفرح الطفولي الغامر يلون كل إيماءة .. كل حركة من حركاتها ..انطلقت بالعربة تاركة لنا الغبار والدهشة والأشواق .. نعم عدت وأنا أترنح كالسكاري من فرط سعادتي .. توجهت مباشرة نحو أمي أسألها .. من أنا ومن أكون وكيف كبرت وترعرعت ولماذا لم نكن هنالك بذلك الحي الراقي قرب سحر وأسرتها .. اسندت كتفي علي صدرها وبدأت أنشج بالبكاء كطفل صغير .. كنت متعباً وحائراً وقلقاً وخائفاً من الغد ومن سحر .. من روعتها ونعومتها وهيبتها .. فهل يجوز لي مجرد التفكير بها علاوة علي حبها وعشقها .. أرسلتت أمي تنهيدة عميقة خرجت من بين حنايا صدرها .. آه يا ولدي لو تعلم ما قاسيناه وكابدناه من أوجاع .. كنت أعمل في الوادي حين ولدتك .. أجلستك فوق الأعشاب وكأنني دجاجة تفقس بيضها في الهواء الطلق .. لملمت بقاياك وصراخك يزلزل كياني وكأنني سأفقدك في منعطفات تلك البرية .. صرخت باعلي صوتي علّ أحداً ما يسمع ندائي فيحملنا إلي بيتنا أعلي السفح ولكن لا أحد .. جاوب الصدي صراخي وهتافي ولكن لا أحد .. حملتك وأنا أستحم بالدم والألم أسقط ثم أنهض .. اسقط ثم أنهض .. حتي وصلت مشارف القرية حيث تلقفني خالك وصرخ باعلي صوته ( عووك ..هوي يا ناس ..حوه إخيتي ولدت ليها ولد ) ..وعاشت القرية أياما وليالي ترقص تحت ضوء القمر فرحاً بمقدمك .. فقد ولدتك بعد أن مضي علي زواجي من أبيك سبع سنين بالتمام والكمال .. وعندما سمع بالخبر وكان وقتها في الجنوب يعمل في الجيش ..أخذ إذناً وعاد للبلد وبالرغم من معارضة أهلي أصرّ أبوك علي أن نذهب معه حيث يعمل .. ومن ثمّ بدأت رحلتنا الغريبة والفريدة مع التجوال والحركة المستمرة من بلد إلي بلد ومن نقطة إلي نقطه .. وكنت عندما يشتد أوار القتال بين المتمردين وجيش الحكومة أحملك علي عجل وآخذك للمسجد ..وأغطيك بآيات الله أدعوه .. وأدعو الرسول ومن بعدهم أولياء الله الصالحين أقول ( يا الله تحفظ لي وليدي صالح .. يا الله إن أنا مت وليدي يعيش ويكبر ويبقالي ظابط متل الظباط رفقا أبوه ..) .. وظللنا علي هذا المنوال ..هي تحكي الحكايات المشوقة عن أناس وأماكن وحروب وقتلي .. وكانت تقلد صوت الأسلحة وكأنها خبير في المتفجرات ( الإنرجيا تعوي متل الجرو .. والمورتر يسوي يييي دو .. والبرين تتاتت تتا تت ..) ..حدثتني عن ظروف مرت بهم ومصاعب لا تخطر علي بال ..واختتمت مرافعتها بقولها ( الحرب قبيحه يا وليدي ..الله لا يضوقك ليها ) . الحلقة الرابعة