كلهم كذَّابون !!
كيف لي أن أصدقهم ، وكلهم كذَّابون
وياليتهم يتقنون الكذب ..
يزعمون إنك مريضٌ ، و نسوا أن الشمس في محرابها لا تمرض
والنجوم في أفلاكها لا تمرض
والسماء في عليائها لا تمرض
والأنهار في جريانها لا تمرض
ورياح الرحمة في هبوبها لا تمرض
وسحائب الغيثِ لا تمرض
و الرواسي الشامخات لا تمرض
والحكمة لا تمرض
والهدى لا يمرض
والنور لا يمرض
فكيف يزعمون أنك مريض ؟!
وكيف أصدقهم ؟ .. و كلهم كذَّابون !
يا ويلتنا جميعاً إن مَرِض هذا القلب
إِذَنْ لَحَقَّ لنا أن نكبر أربعاً على قلوب العالمين
ها نحن الآن بمفردنا ؛ أنت و أنا فقط
ربما لا تشعر بي ، لا تنتبه لوجودي
إنها الفرصة التي انتظرتها طويلاً
فكم من مرةٍ تمنيتُ لو أرتمي على قدميك ؛ أقبلهما
كنتُ أتراجع ؛ ليس كبراً أو غروراً أو حياءً ؛
وإنما سؤالٌ حائر يتردد في أروقة العقل ؛ إن كنت أستحق هذا الشرف ؟
هذه المرة لن أَتَسَاءل ؛ لن أتردد أو أتراجع
ربما تراني نَّهَّازاً للفرص ، أو ( أَنانِياً )
وربما كنت لتمنعني لو تقدر
لكن قل لي بربك سيدي ..
كيف لي أنا أن أمنع نفسي من اغتنام هذا الشرف ؟!
كيف يظن أولئك الواهمون أنني قد أسمح لهم بالدخول ؟
من ذا الذي أغراهم برؤية الشمس في كسوفها ؟!
لماذا لا ينتظرون قليلاً حتى تعاود السطوع لتمنحهم - كدأبها دائماً - الدفء و الضياء
فليملأوا الطرقات كيفما شاءوا ، و لينتظروا الساعات كيفما شاءوا ، وليطرقوا الباب كيفما شاءوا
فما لهم أن يشاهدوا الشمس إلا مشرقةً في سمائها
لماذا لا نوقف اللعبة قليلاً ؟!
ثلاثون سنة - أنت وأنا - نمارس اللعبة نفسها ، وما انتبهنا أنها أرهقتنا
ثلاثون سنة وأنا أشعر بضآلتي أمامك ؛ بضعفي بين يديك ، باحتياجي إليك
ثلاثون سنة انتسب إليك لاختلس من لَدُنْك شرفاً وعزاً
ثلاثون سنة وأنت هناك تسكن ربوة من رُبى الشمس
وكلما ارتقيتُ درجة ، أشعر أنك بعيد بعيد ، كبير كبير ، و أنني في حضرتك صغيرٌ ضعيف
وما زلتَ في فراش المرض تمارس اللعبة معي ، ما زلت شامخاً ؛ قوياً ؛ كبيراً
ما زلتُ أحتاج إليك ، فتمنحني من صلابتك
ابتسامة الثقة على شفتيك تغالب دموع ضعفي
نظرات الرضا في عينيك تهزم بعضاً من آلامي
روحك المشرقة بالإيمان تنير بصيرتي في ظلمة اليأس
أفما أتعبتك اللعبة ؟
لماذا لا تستريح قليلاً ؟ لماذا لا نوقف اللعبة قليلاً ؟
كثيراً ما قلتَ لي أنني أحسن اختيار التوقيت المناسب ..
هل تسمح لي أن أخيب ظنك هذه المرة ؟
سامحني يا أبي ، فلدي ما يجب أن أصارحك به :
لقد كنت قاسياً معي يا أبي ؛ قاسياً جداً!
لا تعجب .. فربما لم تنتبه لهذا ؛ وربما لا تذكره
لكن كيف لي أنا أن أنسى وقد اكتويت طويلا بنار قسوتك ؟
كيف لي أن أنسى صورة ذاك الطفل الصغير الأحمق إذ يتهمك بأنك لاتحبه ؛ لا تهتم به
أعرف أنني أخطأتُ ؛ وكم ندمتُ على تلك الحماقة إذ تلفظتُ بها ..
تمنيتُ حينها لو أنك عنّفتني ؛ صفعتني ؛ عاقبتني كما يفعل الآباء ..
إلا أنك كنت أشد قسوة .. ترقرق الحزن في عينيك دون أن تجبني ، تركتني للندم يقتلني في اللحظة ألف مرة
ظللت طيلة هذه السنوات تعاقبني على حماقة طفلٍ غرير لا يحسن تمييز الأمور
ظللت طيلة هذه السنوات تمنحني الحب بلا حدود ، و الأمان بلا حساب ، و الدفء بلا انقطاع
ظللت طيلة هذه السنوات ظَّهْراً يقويني ، وعيناً تحرسني ، ويداً تنهض بي كلما سقطت ، وشمساً تهديني كلما اشتد الظلام .
كثيراً ما تمنيتُ لو تمنعني عطاءك قليلاً ، لو تحرمني حبك قليلاً ، لعلك تخفف عني عقابك ..
لكنك لم تفعل ..
أبيت إلا أن تتمادى في قسوتك ، لم تغلق في وجهي بابك يوماً ، لم ينقطع عني عطاؤك يوماً ، لم تحرمني دفء مشاعرك يوماً .
لاتنزعج يا أبي إن كنتُ أسأت اختيار التوقيت ، لكن لعلك أدركت الآن كم كنت قاسياً معي !!
مولاي ، وسيدي ، ومعلمي ..
أبي الحبيب ..
شمسي التي لا تغيب ..
أما آن لك أن تعود ؟
أما آن لك أن ترحم ابنك الضعيف ؟
أن تحمل عنه بعضاً من عذاباته في المغيب
فكل ما في الكون يلاحقني ، يسألني عنك
كل ما في الكونِ يعذبني ؛ يكذّبني فيك
كتبك التي تشكو الإهمال بعدك
أقلامك التي ترتجف فوق الأسطر البيضاء
أوراقك المبعثرة حزناً لغيابك
بيتنا المكسوة جدرانه برائحتك ، يرفضني
يغلق أبوابه في وجهي
طريقك إلى المسجد يهتز تحت قدمي حنيناً لخطاك
طلابك في الجامعة ينتظرون قدومك
عباءتك المصلوبة تشتاق إليك
نظارتك ؛ فنجان قهوتك ؛ العصافير على سُّورِ شرفتك
عد لهم يا أبي ..
قل لهم يا أبي .. قل لهم إنك ستعود
قل لهم إنني لا ذنب لي في غيابك ، و إنني مثلهم أموت حنيناً إليك
قل لهم إنني لا استحق عقابهم لي
عد لهم يا أبي ..
عد لي ..
عد لنا كما كنت أبداًً ..
شمساً لا تغيب