دقات الثانية عشرة تنزع ورقةً أخرى من دفتر العمر؛ تقطف زهرة من بستان سنواته المبعثرة على أرصفة الحياة، أقلب وجهي في السماء مستكشفاً الزهرة التالية، فلا أتبين ألوانها...
مضطربة إيقاعاتها هذه المرة، تؤلفها في عشوائية؛ نايات الوحشة، وقيثارة الحنين، وطبول القلق والحيرة، وتقسيمات شجية للشوق على أوتار العود.
تتواعد دقات الساعة ورنين الهاتف عند الضفة المهجورة من أودية صمتي، يتزامنان فتزداد فوضى الإيقاع.
يتسابق قلبي وأصابعي لمعانقة سماعة الهاتف، تسبقهما لهفتي محتلةً مساحات شاسعة من حروفي.
جاءني صوته منطلقاً فوق أوتار السعادة؛ أن كان أول من بادر بتهنئتي بعيد ميلادي...
هو دوماً الصديق الأقرب إلى نفسي، والأحرص على مشاركتي همومي وأفراحي ولحظاتي الخاصة.
بادلته التهنئة بالامتنان والشكر، سعدت لسعادته بالمبادرة؛ محاولاً إخفاء ذاك الأنين الخافت في أقصى بقعة من جوانب القلب.
باللهفة نفسها؛ تعدو جوارحي نحو المكالمة التالية، أتلقى تهنئة رقيقة، استقبلها بالسعادة والامتنان... لم تكن أيضاً المكالمة التي يحترق القلب شوقاً في انتظارها.
لم ينقطع رنين الهاتف، توالت التهانئ محملةً بالودِ وفيض المشاعر، احتواني هذا الدفء الحميمي؛ رغم التلال الجليدية المحيطة بشغاف القلب.
اُستنزفت لهفتي، خفتت جذوتها، عاد الهاتف إلى سكونه بعد أن تجاوزت الساعة الثالثة صباحاً، وعدتُ إلى سكوني على حافة الشرود؛ مختلساً النظرة بين الحين والآخر لتفحص الهاتف والتحقق من كونه - مثلي - يتمسك بالخيوط الأخيرة في الحياة.
هذه هي المرة الأولى التي أتذكر فيها عيد ميلادي قبل قدومه، بل وأعدّ الساعات في انتظاره، فلستُ من المهتمين كثيراً بالمناسبات؛ وعادة ما لا أتذكر يوم ميلادي إلا مع أول تهنئة به.
في طفولتي لم أكن أنام هذه الليلة، أرتمي في أحضان أحلامي الصغيرة، أحيا مع الغد الميمون، والزينات التي تكسو جدران البيت، وبهجة الأصدقاء تعبّق الأرجاء، والهدايا التي سأقضي ليل الغد في فتحها وترتيبها.
ثم ما عادت دوامات الحياة تسمح لنا بممارسة الطقوس الطفولية، شاخت أحلامنا الصغيرة على أعتاب الزمن الجليدي، أطفأت رياح الإنكسارات شمعاتنا الملونة، فبرودة الأيام لا تساعد على السهر في أحضان الأمنيات، ينسينا الركض في طرق العمر السريعة أن هناك رغبات عابثة مخبأة في جيوب الذاكرة.
تتجاوز الساعة الرابعة صباحاً... ثقيلة ثقيلة الساعات في حضن الانتظار، تلقي بنا في بئرِ سحيقة من الرتابة واليأس .
أحاول مبارزة الوقت بتصفح بريدي، أطالع في سكون تهنئات الأصدقاء...
- إنه الصديق المشاغب دوماً، حتى التهنئة بعيد الميلاد لا تخلو من مشاغباته، كثيراً ما أغبطه على طفولية روحه ونقاء سريرته.
- رقيقة هذه البطاقة، ليست بالاحترافية الكافية، لكن أجمل ما فيها حرص صاحبتها على تصميمها بنفسها.
- آه ما أوفى هذا الصديق، ما ظننته يتذكر عيد ميلادي، فقد ألهتنا مشاغل الحياة الفترة الأخيرة حتى فرقت شعابنا.
- هذه الأبيات الشعرية من أنفس ما أُهدي لي هذا العام، فليس أغلى عند المبدع من حرفٍ يكتبه، وها هو يهديني أغلى ما لديه.
أواصل مطالعة الرسائل، أغالب دمعات حسرة تكاد تتسلل من جدران القلب المثقوبة، أصم أذني عن أناتٍ مكبوتة في جوانب النفس؛ تأمل لو غفلوا جميعاً عن يوم ميلادي، لكنهم – يا لسوء حظ قلبي – تذكروني كلهم.
يتسلل شعاع شمس أول صباحات عامي الجديد ليداعب الجفن الكلوء، أنتبه لكوني لم أذق النوم منذ أكثر من يومين؛ يتسرب الشعور بالإرهاق ليلامس أوصالي المتعبة، أفتش فوق جفوني عن بقايا رغبات شاردة في إغفاءة قصيرة، فتشدني أحبال التأمل للغوص في بحيرات السكون.
أنفض عن نفسي غبار الإحباطات؛ باحثاً عن إشراقات مخبأة خلف غيمات اليأس علني أبدأ بها عامي الجديد.
- آه ما أقسى أن تتحول قلوبنا من الرغبة في الحياة إلى مجاهدة الموت.
*****
أنحدر من أصولٍ تصطبغ بموروثات وعادات وأفكار البيئة الصحراوية، لذا نرى في المطر بشارة خير ونماء؛ تتجسد فيه كل ملامح الحياة، نستقبله بالفرحة والبهجة.
على غير عادته في شهر مارس؛ يزورنا المطر في مساءٍ شتوي؛ محملاً بحقائب صقيعية، وقبسات "برقية" ، ومقطوعات كلاسيكية يعزفها الرعد في غير توقف، تمتزج قطرات المطر مع وهج البرق ليكونا لوحة تشكيلية تأسرني بين دقائقها.
من المفترض أن الشتاء قد لملم بقاياه مغادراً؛ فهل يا ترى جاء المطر خصيصاً لمشاركتي هذا اليوم؟ أم جاء سفيراً للأقدار حاملاً منها رسالة الوداع الأخيرة؟
*****
لم أتعود الاحتفال بعيد ميلادي؛ مكتفياً بتهنئة الأصدقاء دون أن أرهقهم أو اختلس من وقتهم، هم أيضاً عرفوا عني هذا دون غضاضة.
هذه المرة يحرص الجميع على الحضور في الذاكرة يوم ميلادي ... هل هو التخاطر الإنساني عن بعد جعلهم يدركون مدى احتياجي لوجودهم؟ أم اهتمامهم لأمري يحثهم على وضع لبنات صغيرة تقيم جدران القلب المتهدمة؟
ازدحمت الغرفة بالهدايا دون رغبة مني في فك أغلفتها؛ اصطفت الورود في مشهد حزين انتظاراً لمن يمنحها نضارةً تفتقدها.
ما لهذه الورود لم تتفتح بعد؟! وحد علمي أن مارس هو شهر الربيع!
*****
أراقب عقارب الساعة تركض متسارعة في اتجاه الثانية عشرة...
تدرك غايتها مبكرة لتعلن انتهاء اليوم؛ نغماتها ثقيلة ثقيلة.
أحاول عبور الجسر بين السنة والسنة، أنزوي بين عقارب الساعة هرباً من مطاردة ذاك المجهول يجول طليقاً في أعماقي.
انظر في المرآة؛ تزعجني الشذرات البيضاء الزاحفة لاحتلال المساحات الليلية من شعري؛ رغم أنني ما زلتُ في مطلع الثلاثينيات؛ أحدق أكثر في تلك الملامح الباهتة؛ ليست ملامح السعادة بحفاوة المقربين، ولا ملامح الأسى لحسرة تدب في دواخلي.
ينتفض العقل بحيلة شيطانية للالتفاف حول أحلام القلب المتوجع...
لماذا لا أقدم لنفسي التهنئة نيابةً عنها؟!
ألم أكن أشعر دوماً أننا روحٌ واحدة؛ قلبٌ واحد؟
استجمعت ما تبقى من شتات الأمل الزائف؛ توجهتُ برجائي - متوجساً – للوجه الكامن في مرآتي...
وكأنه يقرأ أفكاري؛ ابتسم ساخراً؛ أجاب رجائي متهكماً:
- أما زلت تسبح في عماياتك؛ هائماً في أودية الوهم الملون؟
أتراها تذكرته العام الماضي؛ فتذكره هذا العام؟! أو قبل الماضي؟!
أما زلت تأمل في استئجار و لو خيمة منزوية في ضاحية ذاكرتها المزدحمة؟
- يكاد صمتي ينطق متوسلاً لعله يرفق بحالي
يكمل متعجلاً ؛ مترفقاً:
- لا تنزعج؛ "كل سنة وانت طيب"...
سأكون أول من يقولها لك... عندما تشرق شمس ميلادك !